فيفيان سمير تكتب: عفوًا... غير متاح


أغلقت كل النوافذ كأنها تطوي صفحات عالما لم يعد يليق بها. الستائر الثقيلة سقطت كستار أخير على مسرحية أرهقتها أدوارها. لطالما كانت هناك، متاحة ككتاب مفتوح، يُقلب الجميع صفحاته في أي وقت يشاؤون. اعتزلت كل وسائل التواصل وأوصدت حتى أبواب قلبها، ذلك المكان الذي كان يُضيء بمصباح دافئ للعابرين، أوصد بأقفال من صمت لا يرغب أن يُفسر نفسه، مستسلمة لذلك الضعف والألم الذي هزماها. اكتشفت فجأة أنها متاحة في كل الاوقات لمن يدق بابها، حتى لو على حساب نفسها، واعتبر الجميع ذلك شيئا طبيعيا ومفروغا منه، لدرجة القلق أحيانا والغضب كثيرا، لو تصادف ان تأخرت في الرد ولو دقائق، كأن المفروض انها رهن طلبهم في أي وقت وكل وقت، متاحة لمن يريد أن يفرغ حقائب همومه، أو من يريد نصيحة، وحتى لحظات مللهم تجد طريقها إليها، لمجرد قضاء دقائق للتسرية وتغيير الحالة المزاجية. الجميع اعتاد أن يجدها جالسة في انتظارهم، كقطعة أثاث لا تُغير مكانها، في حين أنها لا تجد أحدا منهم متاحا وقت احتياجها هي، الكل مشغول بشؤنه وحياته، يتفضل عليها بدقائق من وقت فراغه إن أمكن، وقد يغضب لقلقها إن غاب، الجميع يملكون مفاتيح وجودها، لكن لا أحد يترك لها مفتاحا لقلبه.
في دراسة أجرتها جامعة هارفارد (2023)، تبين أن 68% منا يعيشون هذا الكابوس يوميا نتيجة شعورهم بالضغط الاجتماعي الذي يدفعهم إلى تبرير خياراتهم الشخصية بشكل مستمر. هذا الضغط لا يأتي غالبا من الغرباء، بل من المقربين الذين يخلطون بين الاهتمام والتدخل، بين الحب والاستحواذ، حيث يتحول أقرب الناس إلينا إلى حراسٍ لخياراتنا، ويحكمون علينا بحُكم "المُحِق دائمًا"، بينما في دراسة أخرى أجرتها جامعة ستانفورد، اعترف 47% من المشاركين بأنهم اتخذوا قرارات خاطئة في حياتهم فقط لتجنب حكم المجتمع عليهم.
المجتمع بطبعه كائن فضولي، في دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا (2022) أعترف 78% من الأشخاص بإطلاق أحكام مسبقة على خيارات الآخرين. الغريب أن هذا الفضول نادرا ما ينبع من اهتمام حقيقي، والمفارقة أننا نعيش في زمن يدعي التقدم والتحضر، بينما فقدنا فيه أبسط قواعد اللياقة في احترام خصوصية الآخر، فقد نرسل مئة رسالة نستجوب فيها الشخص عن سبب غيابه أو صمته أو رفضه لتصرف ما، وكأن شأنه الخاص يستوجب الشرح أو التفسير. الخصوصية ليست جريمة، والاحتفاظ بمساحة شخصية ليس إهانة للآخرين. عندما يقول الإنسان "لا أستطيع" أو "لا أريد"، فهذه إجابة كافية. لا يجب أن تتبعها قائمة أسباب وأعذار ومبررات، وكأن رغبته وحدها غير كافية وغير شافية.
في بعض الثقافات القديمة، كان هناك ما يُعرف بـ"حق العاصفة"، حيث يُسمح لأي شخص أن يلجأ إلى منزل غريب أثناء العاصفة دون أن يُسأل عن اسمه أو قصته. اليوم، نحتاج إلى مفهوم مشابه "حق الصمت" أو "حق الانشغال أو الاختفاء"، حيث يُسمح لأي إنسان أن يُغلق بابه، أن ينقطع عن العالم، دون أن يُحاسب على ذلك.
العلاقات الصحية لا تُبنى على التطفل، بل على احترام الحدود؛ فلك الحق أن تقول "لا" دون الشعور بالذنب، وبدلا من تبرير قرارك، اسأل الفضولي: "ما شأنُك بما لا يعنيك؟" فبعض الأشياء في الحياة لا تحتاج إلى تفسير، بل إلى الاحترام فقط. الإنسان، ليس تطبيقا يجب أن يكون متاحا 24/7، بل كائن يحتاج أحيانا أن يغلق باب عالمه، ويعلق لافتة صغيرة على قلبه "عفوًا... غير متاح".
تذكر كلمات الفيلسوف "كيركجارد": "إن أعظم اكتئاب يأتي من أن تكون كل شيء ما عدا نفسك". ربما تكون المهمة الأصعب في حياتنا هي تعليم من حولنا احترام مساحتنا الخاصة، وأن نتوقف عن تقديم شهادات تبريرية لكل خيار نتخذه، ونبدأ في العيش وفقا للقانون الوحيد الذي يستحق الاحترام "قانوننا الشخصي"؛ فلك كل الحق أن تكون "غير متاح" وقتما شئت دون تقديم أعذار. وسيبقى المجتمع ذلك الطفل الفضولي الذي يريد اللعب بكل ألعابك، مهمتك ليست إقناعه، بل تعليمه احترام حدود الصندوق الذي كتبت عليه: "هذه ممتلكاتي الخاصة".
وتذكر أن التاريخ لا يذكر أولئك الذين عاشوا كما أراد لهم الآخرون، بل يخلد الذين كانوا شجعانا بما يكفي ليقولوا: "هذه مساحتي، وهذه قواعدي". وكما كتبت "أنيس نين": "الحياة تتقلص أو تتسع حسب شجاعة المرء". فلتكن شجاعا بما يكفي لتوسيعها قدر استطاعتك. الحياة أقصر من أن نعيشها وفقا لرغبات وجدول مواعيد الآخرين.