مارا احمد تكتب: ذات البنطال المُمَوّه
بوابة المصريينكنت أتصفح رواية لـ “جابريل جارثيا ماركيز” التي أزعجت عقلي وأثارت الرفض لها بداخلي، فلقد خالفت ما وصل يدي من ثقافة وموروثات؛ عشت عمري في ظلها في سلام. لكن يشفع لتلك الرواية “الحب في زمن الكوليرا” أنها لكاتب عاش على الجانب الآخر من البحر الثائر بيننا؛ في عالم مقابل لعالمي. فكان جريئا في التسليم بالضعف البشري بل واحترامه للخطيئة. الملازمة لحرية الاختيار وطبيعة الإنسان وتقديسه للحب..
كنت غارقا في السؤال وتائها في البحث عن الإجابة، حتى دخلت تلك المرأة المكان، حيتني بصوت غير مسموع فنحن في رحاب الفكر وعلى بساط القراءة في إحدى المكتبات.. أزعجت بجمالها رواد المكتبة؛ الذين كانوا منذ قليل مسافرين إلى عوالم مختلفة، وفي حالة من التحليق الصوفي في حضرة آلاف الأصوات التي تتحدث إلى مريديها من متصفحي الكتاب.. وأزعجت بعقلي الأسئلة، والتي أبدا ما انفكت تثير تسونامي “في رأسي.”
طويلة ممشوقة القوام، ذات شعر أشقر مصبوغ، مطلق الحرية، يتحرش به الهواء ويتحرش هو بقلوبنا كما صاحبته. ترتدي تي شيرت ملتصق بجسدها وكأنه كان لأبنتها أو أخيها الأصغر؛ حدد حجم صدرها واستدارته فبرزت أنوثتها في غير تبجح، فلا شك أنها أبدت مهارتها في إحراجك؛ فهي تتكشف في تحفظ فلا تستطيع ان تتهمها بالفجور، وستفشل بلا شك في أن تمنحها هبة الحياء والتحفظ.
تحت التي شيرت ترتدي بنطال من الجينز المموه كما زي مجندي الصاعقة، على جانبيه بالقرب من الركبتين جيوب كبيرة واسعة وتحت الخصر من الخلف أيضا. للحظة يساورك الشك أنها ستخرج من تلك الجيوب بنادق آلية لتصيب الحضور في مقتل.
وللحق نجحت بلا بنادق، فنصفها السفلي المموه كان صاعقة أهدرت كل قدرات الرجال القابعين في كراسيهم الممسكين بالكتب بلا تشبث، والمتشبثين بجسدها بلا تفريط. ألقت التحية وسألتني بصوت أنثوي تعمدت أن ترفع من درجة أنوثته “أين أجد كتابا عن محاكم التفتيش في العصور الوسطى؟”
أجبتها:
– معذرة فالمسؤول ليس بأعلم من السائل، ولكن من الممكن أن تتوجهي إلى أمناء المكتبة أو من الأفضل أن تستخدمي الكمبيوتر الموجود في الصالة الخارجية لتستعلمي عنه، أكتبي أسم المؤلف أو أسم الكتاب وهو سيدلك على مكانه.
ردت: ميرسي
“إنها عادة النساء يحاولن أن يلمحن لمن يخاطبهن بأنهن ذوات ثقافات راقية غربية. فما عاد فخرا أن نتواصل متحدثين العربية.. فاللغة نشأت أو خلقت لأجل أن يتفاهم أهلها فيما بينهم ويسهل التواصل بينهم.. لكن تمكنت اللغة من “عنصرة البشر” صارت في عصرنا هذا وسيلة مبتكرة لتصنيف البشر إلى طبقات.. فأنت قوي بقدر قوة البلد التي تتحدث لغتها، والعربية صارت لغة المرفوضين، لغة الضعفاء.
استدارت في وقفتها فانكشف جزء من خصرها حيث أرتفع التيشيرت وانزلق البنطال قليلا. “خبرتي كرجل كعبته النساء تقول أنها تعمدت التكشف وأنها لا تأبه لاختراق العيون لحواجز المنع؛ أبعدت عيني ونزلت بهما إلى تلك الصفحة التي لم اغادرها منذ قدمت تلك العابرة، لتعود بعد قليل وفي يدها مجلد، حركت الكرسي المقابل لي واعتذرت عن صوت احتكاكه الذي أيقظ الانتباه فيمن حولنا، هو وحضورها، وجلست أمامي.. تصدرت المشهد وصارت في بؤرة الانتباه..
وضعت المجلد وخلعت نظارتها الشمسية، وأبعدت ياقة التي شيرت إلى الوراء ونفخت في الهواء بعض الزفرات إشارة منها لحرارة الجو في الخارج وتعرقها، وفتحت آخر زر كان يحول دون كشف الممر الساحر بين نهديها.
-الجو مميت وخانق اليوم وجسدي لا يتحمل العرق والسخونة.
– بالفعل الجو ساخن جدا.. ومن يتحمل السخونة سيدتي؟!
“قلتها فلقد رفعت حرارة جسدي حد الحمى ونحن تحت هواء المكيف”
سألتها “لماذا محاكم التفتيش؟”
-مهتمة بالبحث في الإنسان ومن الذي منحه سلطة الإله، فيميت هذا ويحي ذاك. ليحرم غيره من حقه في الصواب والخطأ، بل ومن الحياة نفسها.
هل بحثك لأجل الثقافة أم لأجل الدراسة؟
-الإثنين. فأنا أكتب رواية عن “الإنسان بين الإله والشيطان”
-عنوان مثير.
كانت تحدثني وأنا مشغول بالبحث في شيء آخر داخل عينيها.. فما أجمل أن يتألق الشيطان في عينيها! التي كانتا ضيقتان ولكنهما مزدحمتان بالذكاء، فمنحهما اتساعا يستوعب الأراضين جميعا.. لحظتها أدركت أنني في مواجهة امرأة استغرقت ساعات أمام المرآة لتقدم أنوثتها في أبهى صورة، واستغرقت سنوات حتى تشذب أفكارها وتجمل عقلها ليبدو مرسلا في حرية كما خصلات شعرها.
حاولت أن أشيح بناظري عن عينيها فلقد اجتازت رجال القاعة جسدا واجتازت عقلي عمقا ورفعت عني سترتي وكشفت سوءة نفسي، كان صوت ضربات قلبي عاليا في صمت وهناك شيء بداخلي ينهرني عن مواصلة التحاور معها وآخر يصارع هذا الصوت ويأبى إلا أن يرتكب حماقة التبرك بتلك الرسولة.
لكن شرقيتي كانت اقوى.
فكيف لمثلي أن يجابه امرأة يرتدي نصفها السفلي بنطال الصاعقة المموه؟!
امرأة تترك العنان لأنوثتها لتمتطي القوانين فتروضها إلى أعرافا للغجر؟!
امرأة صقلت فكرها فكان لها عقل كما المرآة تكشف أمامها نواقصنا قبل أن نتجمل محاولين إخفائها.
امرأة لشفتيها أنصال تصرع بقبلتها متبتلا عاش عمره في تعبد واعتكاف.
إنها امرأة تقرأ الرجال فتتجاوز حصونهم في يسر؛ لتمارس ديكتاتوريتها على قلوبهم في إقناع..
لملمت روايتي واتخذت الاتجاه المعاكس فخطر لي أن أجتاز الطاولة الفاصلة بيننا فأذوب بها وأتلاشى، وانصرفت وهي تنظر إلي في إصرار من أعتاد الانتصار في كل المعارك. توجهت خارجا من باب القاعة في محاولة للهروب الصوري من سلطتها وفي أعماقي رغبة في قراءة ذلك الكتاب ذو الغلاف الأخاذ.. إذا بها تمد يدها لتحية رجل كان بانتظارها بجوار بوابة المكتبة تمسك يده ويعبران الباب إلى السيارة بعد أن ألقت بنظراتها إليّ مرسلة رسالة مؤداها.. “بعض الكتب ذات غلاف براق وجذاب ولكن الغلاف وحده غير كاف لتحكم على المحتوى.. “
مالي أنا وامرأة ترتدي البنطال المموه!