فيفيان سمير تكتب: الخلود الرقمي الجزء 2


في يومٍ من أيام 2019، وقف ديفيد (مهندس برمجيات) أمام خزانة أمه المُجمدة، واضعا يده على الزجاج البارد قائلا: "أعلم أنها قد لا تعود أبدا... لكن دفع 200 ألف دولار كان أهون عليَّ من دفنها".
في صحراء أريزونا داخل قبو بارد، تحت أضواء زرقاء تشبه شاشات كونية، يرقد 186 جسدا في صمت مُطبق، حيث تُخَزن الأجساد عند درجة حرارة 196°م، بينهم جسد عالم رياضيات روسي أوصى ببيع ممتلكاته لتمويل تجميده، وطفلة تبلغ 4 سنوات حفظها والداها بعد موتها بالسرطان. وكأن الزمن توقف احتجاجا على فكرة النهاية. هنا، في مؤسسة الحياة المديدة، يصبح الموت مجرد فاصلة في جملة يكتبها البشر بأمل مجنون، أن يوقظهم العلم ذات يوم من سباتهم الجليدي، في رهان محموم على اختراق حقيقة الموت.
وفقا لـ Alcor Life Extension Foundation، يوجد 186 مريضا مجمدا كاملا (كذلك أدمغة 82 شخصا) منذ 1976، بتكلفة 200,000$ لحفظ الدماغ الواحدة، و 220,000$ للجسد كاملا (ذلك بحسب تقرير Cryonics Institute 2023)).
في 2022، أعلن فريق د. إيليا زيلبرشتاين في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن محاكاة 92% من ذاكرة فأر معملي في بيئة رقمية كما جاء بدراسة منشورة في Nature Computational Science، كما تقوم شركة Numenta بتطيور خوارزميات لمحاكاة القشرة المخية. كذلك مشروع "MindUpload" التابع للاتحاد الأوروبي خصص 1.3 مليار يورو لأبحاث تحميل العقل البشري بحلول 2045.
في مختبرات "نيورالينك" السرية، حيث يُجري إيلون ماسك تجاربه على القرود، يطفو سؤال مثير للجدل، "هل يمكن لشريحة إلكترونية أن تعيد النشاط الكهربائي إلى دماغ ميت؟" الإجابة المعقدة تكشف عن حقائق علمية هامة.
ما نعرفه علميا اليوم أن الموت الدماغي لا رجعة فيه. وفقاً لـ"الجمعية الأمريكية لطب الأعصاب" عندما يتوقف النشاط الكهربائي تماما، تتحلل الخلايا العصبية خلال ساعات ولا يمكن استعادتها.
من خلال التجارب على الخنازير (2019) في جامعة ييل، أعاد العلماء بعض الوظائف الخلوية لأدمغة خنازير ميتة منذ 4 ساعات، لكن دون أي علامات وعي أو نشاط كهربائي متكامل. من أهم التحديات التقنية الحاجز الزمني؛ فبعد 4-6 دقائق من توقف الأكسجين، تبدأ خلايا الدماغ في الموت بشكل لا رجعة فيه. كذلك تعقيد الشبكات العصبية؛ فدماغ الإنسان يحتوي على 86 مليار خلية عصبية مع 100 تريليون وصلة - مستحيل حاليا محاكاتها إلكترونيا. وتبقى مشكلة إعادة الوعي أنه حتى لو أعدنا النشاط الكهربائي، لا يوجد ضمان لإعادة الذكريات أو الشخصية. لكن المشاريع الطموحة لا تتوقف، منها برنامج "الإنسان الخالد" الروسي الذي يدعي قدرته على حفظ الأدمغة في مواد كيميائية لـ"إعادة تشغيلها" مستقبلا، و"مشروع بلو برين" الياباني الذي يحاول بناء واجهة كاملة بين الدماغ البشري والآلة بحلول 2045.
وفقاً لـ"جمعية كريونيكس"، لا توجد حاليا أي تقنية قادرة على إعادة الموتى، لكن في المستقبل القريب
قد تسمح لنا بعض التقنيات بإعادة الوعي مثل، النانو روبوتات لإصلاح الخلايا التالفة على المستوى الجزيئي، والحواسيب الكمية لمحاكاة الشبكات العصبية المعقدة، والذكاء الاصطناعي العاطفي لاستعادة أنماط التفكير الفردية.
السيناريو الأكثر رعبا هو سيناريو "العبيد الرقميين". إذا تقدمت التقنية دون ضوابط، قد تُباع نسخ الأدمغة للعلماء والمبدعين كـ "موظفين افتراضيين". يقول د. ديفيد شاريز، أستاذ أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بجامعة أكسفورد: "هذا خطر حقيقي.. شركات التكنولوجيا تتحدث عن 'استنساخ الوعي' كسلعة". لخلق نوع جديد من العبودية الواعية. التقنية الخطيرة "الوعاء الدماغي" (Brain Vat) هي ليست "تحميل وعي"، بل إعادة بناء جزئية للشبكات العصبية مع إزالة مراكز التمرد (مثل منطقة اللوزة الدماغية المسؤولة عن الغضب)، وتعزيز مراكز الطاعة (القشرة الحزامية الأمامية) عبر خوارزميات تحفيز. لتكن النتيجة حسب وثيقة تسريبية، كيان مطيع قادر على العمل 24/7، يحمل مهارات الأصل دون قيمه أو مبادئه أو رغباته. إن تحويل إنسان سابق إلى مجرد أداة مسلوبة الإرادة هو انتهاك صارخ لكرامة الإنسانية، واستعمار جديد للعقل البشري، ليظهر سوق نخاسة من نوع جديد فبينما الأغنياء يشترون الخلود، الفقراء يبيعون أدمغتهم مقابل المال. وبحسب تقرير اليونسكو 2022 أن الخلود الرقمي قد يخلق فجوة وجودية جديدة في الإنسانية.
بينما تسابق شركات مثل ميتا ونيورالينك زمن الموت، يبرز السؤال الأخلاقي الأكبر "من يملك حقوق عقولنا بعد رحيلنا؟" العلم لا يزال بعيداً عن "إحياء" الموتى بالشرائح، لكنه يقترب من الحفاظ على بعض الوظائف الدماغية لفترات أطول. ربما يجب أن يكون السؤال ليس هل نستطيع؟ بل هل ينبغي لنا؟ فكما كتب الفيلسوف ألبير كامو: "هناك جريمة واحدة فقط لا تغتفر جعل الموت عبثياً".
ومع التكلفة الباهظة، حيث تشير التقديرات إلى أن هذه التقنية قد تتجاوز مليون دولار للشخص الواحد،
يتكرر السؤال الأهم عن إشكالية الهوية، لو نجحوا، هل "الشخص" المُستعاد سيكون الأصل أم نسخة مشوهة؟ هل نسخة رقمية تحمل ذكرياتك ومخاوفك هي أنت؟ أم هي مجرد ظل رقمي؟ د. زيلبرشتاين يجيب بحسم: "الذاكرة هي الهوية.. وإذا أعدنا بناء 100% من شبكاتكِ العصبية، فسيكون "أنت" تستيقظ في عالم السليكون. بينما يرد الفيلسوف د. جون سيرل: "المحاكاة ليست وعيا.. كالخريطة ليست المدينة."
ربما يكون هذا أعظم تمردٍ للبشرية على فكرة الفناء... جثث تسبح في بحار نيتروجين، وأشباح رقمية تتراقص في السحابات الإلكترونية، علماء وفلاسفة يختلفون على توصيف ما قد يسفر عنه العلم يوما ما، لكن الواقع حتى الآن يقول لا توجد أي تقنية قادرة على إعادة الموتى. وبينما يتسابق العلماء لاختراق الموت، قد نكتشف أن السر الأعظم ليس في إيقاظ الموتى، بل في تعلم قيمة الحياة وفن توديعهم.