الأحد، 14 سبتمبر 2025 06:04 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

هشام بيومي يكتب: ميراث الروح وحكمة الأجيال

بوابة المصريين

الوصايا ليست مجرد كلمات تُقال عند لحظة الوداع، وليست خطابًا يُلقى في نهاية العمر، بل هي أشبه بنبضٍ خالدٍ يُسجَّل في ذاكرة الوعي الإنساني، يحمل من التجارب أثقلها ومن المحبة أصفاها.

في العربية، تأتي كلمة وصية من الفعل أوصى، أي عهد وأمر بما يجب أن يُعمل بعده. والوصايا جمع وصية، وهي تعني الأمر الذي يتركه الإنسان من بعده كعهدٍ أو ميثاق. في المعاجم الغربية مثل قاموس أكسفورد، نجد الكلمة تقابل: Will / Testament / Advice, أي: إرادة أو عهد يُترك، أو نصيحة تُمنح لمن يأتي بعدك. وهنا يظهر العمق: الوصايا ليست مجرد قوانين جامدة، بل هي التقاء بين العاطفة والواجب، بين التجربة الشخصية والحكمة العامة.

منذ القدم، لم تخلُ حضارة من أثر الوصايا. كانت أشبه بجسرٍ يربط الماضي بالمستقبل. في الديانات، تأتي الوصايا العشر في التوراة كميثاق أخلاقي خالد، وفي الإسلام نجد وصايا لقمان لابنه: كلماتٌ تنبض بالحكمة والرحمة، تبدأ بالتوحيد وتنتهي بحسن الخلق والتواضع. تلك الوصايا ليست أحكامًا جامدة، بل خارطة روحية للإنسان كي يحيا حياة متوازنة، صافية، ومتصلة بجذورها الإلهية.

حين يترك أبٌ وصاياه لابنه؛ تصير الوصايا هنا أكثر قربًا وإنسانية. ليست مجرد "قوانين"، بل دفء حياة تُنقل عبر جمل قصيرة لكنها ثقيلة بالمعنى. الأب حين يقول لابنه: "اهتم بأمك وارعاها"، فهو لا يوصيه بالبر فحسب، بل يحمّله مسؤولية الحب الذي لا ينقطع.

"كن مع أخواتك، اسأل عنهم، وقف بجوارهم"، هي دعوة للتماسك العائلي، لأن الأخوة هي الامتداد الطبيعي للقلب.

"اعتن بنفسك وبصلاتك"، وصية جوهرها أن الإنسان لا يقوم بغير ذاته، وأن الصلاة ليست طقسًا فقط، بل عودة متجددة للروح كي لا تتيه في زحمة الدنيا.

"حافظ على طيبة قلبك وعطفك على الفقراء والمساكين"، هي وصية تذكّر الابن أن الرحمة هي أعلى درجات الإنسانية، وأن الإنسان بلا رحمة كائن أجوف.

الوصايا في عمقها ليست مجرد واجبات أخلاقية، بل هي ميثاق نفسي يربط الإنسان بجذوره. حين يستمع الابن لوصايا أبيه، فإن صوته الداخلي يتشكل عبرها، يظل يرافقه في وحدته، في أزماته، وحتى في نجاحاته. الوصية هنا تتحول إلى ضمير حيّ، إلى بوصلة توجهه في لحظة الشك.

فلسفيًا، الوصايا تشبه شعلة تنتقل من يد إلى يد، من جيل إلى جيل، كي لا ينطفئ الضوء وسط ظلام العالم. الوصية تذكّر الابن أنه ليس فردًا منعزلًا، بل هو جزء من نهرٍ ممتد من الأب، ثم الأم، ثم الإخوة، ثم المجتمع، ثم الإنسانية.

الوصايا هي ذاكرة الروح، صوت الأبدية في لحظة الفناء، وبذور الخير في أرض المستقبل. وكل ابن يحمل وصايا أبيه، لا كحملٍ ثقيل، بل كجناحين يطير بهما.
فالإنسان لا يُقاس بما يملك، بل بما يتركه من أثر، وأجمل ما يتركه هو كلمة صادقة:
"كن إنسانًا.. برًا.. طيب القلب.. واسع الرحمة."

مقالات الرأي

آخر الأخبار