الأحد، 23 نوفمبر 2025 12:46 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

هشام بيومي يكتب: من اجل جيل يعرف العالم

بوابة المصريين

في كل مرة تقف فيها الأمم على مفترق الطرق، تبحث عن مفتاح واحد يعيد ترتيب الفوضى ويمهّد الطريق للمستقبل.
و الحالة المصرية مثل كل دول العالم الثالث، يظل التعليم—وليس أي قطاع آخر—هو ذلك المفتاح.
فهو المرآة التي تعكس حقيقة المجتمع، والآلة التي تصنع عقوله، والمنصة التي يبنى عليها وعي الأجيال وقدرتها على الفهم والإبداع والانتماء.

لقد عاش التعليم في مصر عقودًا طويلة تتجاذبه محاولات الإصلاح، لكن تلك المحاولات كانت غالبًا جزئية، تلمس السطح ولا تتوغل في العمق.
واليوم، في زمن تتسارع فيه التغيرات التقنية والاجتماعية، يصبح من الضروري صياغة إطار استراتيجي شامل يعيد بناء المنظومة من جذورها، بحيث ينتقل التعليم من حالة “التجريب” إلى حالة “الرؤية”.

هذا الإطار يقوم على خمسة أركان كبرى تشكّل معًا سياسة تعليمية وطنية جديدة قادرة على بناء مستقبل أكثر قوة ووضوحًا.

الركن الأول: توحيد نظم التعليم… نحو هوية تعليمية وطنية واحدة

لم تعد مشكلة التعليم في مصر مشكلة مناهج فقط، بل مشكلة تعدد مناهج، حتى أصبح الطفل المصري يدرس عوالم مختلفة لا يربطها خيط وطني مشترك.

فالتعليم الحكومي يسير في اتجاه، والدولي في اتجاه آخر، والأزهري في اتجاه ثالث، والتعليم الفني في مسار منفصل.
والنتيجة جيل لا يتشارك أرضية معرفية أو قيمية واحدة، فتتباعد رؤاه حول الوطن، ويصبح الانتماء فكرة نسبية وليست حقيقة وجدانية.

إن توحيد نظم التعليم لا يعني أبدًا إلغاء التنوع، بل يعني بناء جذع واحد للشجرة قبل أن تتفرع أغصانها.

هوية تعليمية وطنية تقوم على:

محتوى مصري مشترك

رؤية تاريخية موحدة

قيم وطنية ثابتة

لغة عربية قوية متجذرة

ومهارات أساسية مشتركة لكل طالب

بهذه الهوية نستعيد “المشترك الوطني” الذي ضاع في زحمة النظم المتوازية.

الركن الثاني: التطوير التقني… تحويل المدرسة إلى مختبر للعصر الجديد

لم يعد التطوير التقني مظهرًا حديثًا أو ترفًا عصريًا؛ بل أصبح شرطًا من شروط بناء طفل قادر على الحياة في القرن الحادي والعشرين.

العالم يسير نحو:

الفصول الذكية

المحتوى الرقمي

الذكاء الاصطناعي

الواقع المعزز

المختبرات الافتراضية

التعلم الذاتي

إدارة البيانات

والتعليم الذي يقف خارج هذه الثورة يشبه جيشًا يدخل معركة بأسلحة بلاستيك.

التطوير التقني في التعليم ليس مجرد أجهزة، بل هو منظومة تفكير:
كيف نفكّر؟ كيف نحلّل؟ كيف نتتبع المعلومات؟ كيف ننمّي الخيال؟ وكيف نجعل التكنولوجيا أداة للتحرر العقلي لا مجرد شاشة نتأملها؟

إن إدخال التقنية إلى التعليم هو إعلان بداية جيل جديد لا يكرر الماضي بل يصنع المستقبل.

الركن الثالث: تعزيز التفكير النقدي والإبداع… من حفظ المعلومات إلى بناء العقول

لبّ المشكلة التعليمية في مصر ليس نقص المعلومات، بل غياب طريقة التفكير.
فالطالب يعرف، لكنه لا يفكّر. يحفظ، لكنه لا يبتكر. يكرر، لكنه لا ينتج جديدًا.

إن بناء عقل نقدي مبدع هو حجر الأساس لأي نهضة، وهو أقوى من أي مبنى مدرسي أو جهاز حديث.
التفكير النقدي يجعل الطالب قادرًا على رؤية ما وراء الكلمات، وفهم ما بين السطور، والبحث عن الحقيقة بدل انتظار من يلقّنها له.

أما الإبداع، فهو الطاقة الخلاقة التي تحوّل المعرفة إلى اختراع، وتحول الفكرة إلى مشروع، وتحول الشاب إلى قوة فاعلة في سوق عالمي متغير.

ومتى اجتمع التفكير النقدي والإبداع، يولد عقل جديد… عقل لا يخاف السؤال ولا يتردد في التجربة.

الركن الرابع: تضييق الفجوة اللغوية والمعرفية… عدالة التعليم قبل جودته

من أكبر تحديات التعليم في مصر الفجوة الهائلة بين من يتعلم بلغات عالمية وفي بيئة معرفية عالية، ومن يتعلم بمناهج تقليدية وأدوات محدودة.
ومع كل عام، تتسع هذه الفجوة حتى تصبح هوّة تفصل أبناء الوطن الواحد.

الفجوة اللغوية تصنع فجوة في الفرص.
والفجوة المعرفية تصنع فجوة في التفكير.
والفجوة الاقتصادية تصنع فجوة في الوعي والثقة بالنفس.

لا يمكن لأي نظام تعليمي أن ينجح بينما أطفال الوطن يسيرون بسرعات تعليمية متفاوتة، كأنهم في سباق يبدأ فيه البعض من نقطة متقدمة والآخر من بداية متأخرة.

العدالة التعليمية—لا المتفوقون وحدهم—هي ما يصنع أمة قوية.
فالنهضة تتحقق حين يحصل كل طفل على أدوات المعرفة الأساسية نفسها، مهما كان انتماؤه الاجتماعي أو الاقتصادي.

الركن الخامس: بناء سياسة تعليمية وطنية متكاملة… رؤية تمتد لعشرين عامًا

كل ما سبق يصبح بلا قيمة إذا لم يدخل في إطار وطني شامل، رؤية طويلة المدى تمتد لعشرين عامًا على الأقل، تتجاوز الحكومات والأشخاص، وتستند إلى:

خطة واضحة للأهداف

تطوير مستمر للمحتوى

تدريب حقيقي للمعلمين

إدارة مركزية رشيدة

ميزانية ثابتة لا تتغير

شراكات دولية بلا فقدان للهوية

وآليات تقييم تضمن الاستدامة


السياسة التعليمية لا يجب أن تتبدل كل خمس سنوات، بل يجب أن تكون عقدًا وطنيًا طويل الأمد، يتفق عليه الخبراء والمجتمع والدولة.

فالتعليم ليس مشروع حكومة، بل مشروع وطن.


إذا اجتمعت هذه الأركان الخمسة، يتشكل أمامنا جيل جديد:

جيل يعرف جذوره… لكنه قادر على الطيران.

جيل يتقن لغته… ويجيد لغات العالم.

جيل يفكّر… لا يحفظ فقط.

جيل يصنع… لا يقلّد.

جيل يرى في مصر وطنًا يتسع للحلم والعمل معًا.

وحين يصل المجتمع المصري إلى هذه النقطة، يصبح التعليم ليس وسيلة فقط، بل بوابة نهضته الكبرى.

فالإصلاح الحقيقي يبدأ من الصف الأول… ومن عقل طفل يؤمن أن مصر ليست مكانًا يعيش فيه فقط، بل وطنًا يصنعه كل يوم

مقالات الرأي

آخر الأخبار