هشام بيومي يكتب: تشديد العقوبات على نشر الشائعات… أم حماية الاقتصاد؟


أثارت واقعة قيام شابين – أحدهما مهندس والآخر طبيب – بنشر نتائج تحاليل لمعظم أنواع المياه المعدنية في السوق المصري جدلًا واسعًا، بعد أن أظهرت النتائج وجود شوائب وملوثات لا تتوافق مع المعايير الصحية. ورغم الإفراج عنهما لاحقًا، أعلن مجلس الوزراء عزمه تشديد العقوبات في قانون الإجراءات الجنائية ضد نشر الشائعات والأخبار غير الموثقة التي قد تضر بالاقتصاد القومي، معتبرًا أن ما حدث- مع حسن النية- يُعد خطأً يستوجب الانتباه.
هذه القضية فتحت بابًا أكبر من مجرد تحليل للمياه؛ إذ أعادت طرح سؤال محوري: كيف نوازن بين حق المواطن في المعرفة وواجب الدولة في حماية الاقتصاد؟
أولًا: ما طبيعة الفعل القانوني الذي قام به الشابان؟
إن ما قام به الشابان يمكن وصفه بأنه:
1. عمل علمي غير معتمد رسميًا
فالتحاليل المتعلقة بالصحة العامة يجب أن تصدر من معامل معتمدة وتُعلن عبر قنوات رسمية؛ لضمان الدقة ومنع البلبلة.
2. نشر علني لنتائج غير موثقة
ورغم حسن النية، فإن نشر بيانات حساسة للرأي العام خارج الأطر المؤسسية يفتح الباب لسوء الفهم وربما الذعر الجماعي.
ثانيًا: لماذا يرى مجلس الوزراء أن الشابين مخطئان؟
تستند رؤية الحكومة إلى ثلاثة مخاطر رئيسية:
1. ضرر اقتصادي مباشر
نشر معلومات غير مؤكدة يربك السوق، ويشوه سمعة الشركات المحلية، ويخلق اهتزازًا في ثقة المستثمرين والمستهلكين.
2. أثر اجتماعي وصحي
إعلان “عدم صلاحية مياه للشرب” بشكل غير رسمي قد يثير موجة ذعر عامة ويؤدي إلى هجوم جماعي على منتجات قد تكون سليمة.
3. تجاوز دور الجهات الرقابية
الدولة ترى أن المختصين فقط هم المؤهلون لإعلان نتائج تخص سلامة الغذاء والمياه.
ثالثًا: الرقابة الشعبية… المفهوم الغائب
في ظل تعقّد الأسواق واتساع نطاق الخدمات، ظهرت الرقابة الشعبية كآلية طبيعية في المجتمعات الحديثة.
ما هي الرقابة الشعبية؟
هي مشاركة المواطنين—أفرادًا أو مجموعات—في مراقبة جودة السلع والخدمات، والإبلاغ عن الأخطاء، واقتراح الحلول، بما يشكل شبكة مساندة للمؤسسات الرسمية، وليس بديلًا عنها.
ماذا تمنحنا الرقابة الشعبية؟
إنذار مبكر للمشكلات
كشف سريع لأي خلل
تعزيز الثقة بين المواطن والدولة
رفع مستوى الوعي العام
لكن الرقابة الشعبية تحتاج إلى إطار منظم… وإلا تحولت إلى ساحة فوضى أو مصدر لشائعات.
رابعًا: نحو نموذج أكثر توازنًا
ولكي تتحول هذه الأزمة إلى فرصة إصلاح، يجب وضع رؤية جديدة تتجاوز الحل العقابي إلى الحل البنائي. وأبرز ملامح هذه الرؤية:
3. تحويل المبادرات الشعبية إلى "شراكة رقابية" بدل مواجهتها
بدل النظر إلى المبادرات الفردية—مثل تحليل المياه أو تقييم السلع—باعتبارها تهديدًا، يجب تحويلها إلى شراكة رقابية منضبطة، عبر:
فتح قنوات مباشرة بين الدولة والمواطنين
السماح بمبادرات علمية تحت إشراف مؤسسي
استقبال نتائج التحاليل الشعبية ومراجعتها قبل إعلانها
بهذا تتحول الطاقة الشعبية من مصدر إرباك إلى طاقة دعم.
4. تحديث جهاز سلامة الغذاء ليصبح: استباقيًّا، تواصليًّا، شفافًا
من أكبر الدروس التي كشفتها الواقعة أن الجهاز الرقابي لا يكفي أن يكون "ضبطياً" فقط يبحث عن مخالفات ليحرر محاضرها، بل يجب أن تصبح أدواره:
أ. استباقية
الكشف الدوري والمعلن عن جودة المياه والغذاء قبل أن يفعل المواطنون ذلك بأنفسهم.
ب. تواصلية
التفاعل السريع مع أي بلاغ شعبي أو معلومات متداولة، ونفي غير الصحيح منها وتأكيد ما هو ثابت علميًا.
ج. شفافة
نشر نتائج التحاليل الرسمية بوضوح، وإتاحة البيانات للجمهور دون غموض أو تأخير.
5. اعتبار الواقعة فرصة لإعادة بناء الثقة… وليس للانتقام
هذه ليست واقعة تستدعي صفع المجتمع، بل واقعة تستدعي إصلاح العلاقة بين المواطن والدولة.
فالمواطن لم يعد متلقّيًا صامتًا، بل شريكًا في الرقابة، وكبت المبادرات الشعبية سيؤدي إلى فقدان الثقة أكثر مما يحمي الاقتصاد.
إن الردع مفيد… لكن الشفافية أهم.
والعقوبة قد توقف الخطأ… لكن الثقة تمنع تكراره.
القضية تكشف حقيقة واضحة:
الدولة تحتاج إلى الشفافية بقدر حاجتها إلى النظام، والمواطن يحتاج إلى مساحة للمشاركة بقدر حاجته إلى الحماية.
وعندما تتحول الرقابة الشعبية إلى شراكة رقابية، ويتحول جهاز سلامة الغذاء إلى جهاز استباقي تواصلي شفاف، وتعتبر الدولة الأزمات فرصة لبناء الثقة لا لردع المبادرات… عندها فقط يصبح المجتمع أكثر استقرارًا، والاقتصاد أكثر قوة، والمعلومات أكثر دقة
























