الإثنين، 22 ديسمبر 2025 04:27 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

هشام بيومي يكتب: عملية مصنع النحاس

بوابة المصريين

في وقت تُنتهك فيه براءة الأطفال داخل المدارس، لا بالتحرش بأجسادهم فقط، بل باغتيال عقولهم وتشويه أرواحهم، يُرتكب أخطر أنواع الجرائم في صمتٍ مريب. حين تُكسَر القيم في سنٍّ مبكرة، ويُترك الصغار نهبًا للخوف والتشويش والانفصال عن ذواتهم، لا نُخرّج مواطنين، بل نُصنّع فراغًا إنسانيًا مقطوع الجذور، بلا انتماء حقيقي للأرض، ولا ولاء لمعنى، ولا ثقة في البشر أو الوطن.

هذه ليست أزمة أخلاق فردية، بل فشل سياسي وثقافي كامل؛ وحين يُفرَّغ التعليم من دوره الوطني، ويُترك الوعي فريسة للعبث أو التشويه، يصبح الوطن فكرة باهتة، مجرد جغرافيا بلا روح.

من هنا، لا يصبح استدعاء القدوة ترفًا ولا حنينًا للماضي، بل فعل مقاومة. نحتاج إلى نماذج حقيقية تربط الوطنية بالفعل لا بالشعارات، وبالتضحية لا بالخطابة، وبالشرف لا بالمصالح. نحتاج إلى رجال جسّدوا المعنى في لحظات الخطر، لا في مواسم التصفيق.

وفي هذا المقال، لا نكتب عن عملية عسكرية فحسب، بل نستدعي نموذجًا مضادًا لكل هذا الانهيار: القائد علي عثمان، الذي قاد عملية مصنع النحاس في عمق العدو، ليؤكد أن الوطن لا يُدرَّس في الكتب فقط، بل يُصان بالفعل، وأن الانتماء ليس شعارًا يُرفع، بل قرارًا يُدفع ثمنه حين يكون الثمن حياة كاملة.

في سياق العمليات النوعية التي نفذتها المجموعة 39 قتال ضد أهداف استراتيجية في العمق الإسرائيلي، برزت عملية تفجير مصنع النحاس في تمناع (منطقة شمال إيلات) كواحدة من أجرأ العمليات التي قادها النقيب علي عثمان (لاحقًا اللواء علي عثمان بلتك). هذه العملية لم تكن مجرد ضرب عابر، بل جاءت بعد تخطيط استخباري دقيق وتحضير طويل، يعكس عمق خبرة علي عثمان وجرأته التكتيكية.

المصنع يقع في وادي المنيعة (تمناع) شمال مدينة إيلات. يعتبر هذا المصنع حيويًا جدًا لأنه يخدم جوانب إنتاجية عسكرية لدى الجانب الإسرائيلي — ما يجعله هدفًا ذا قيمة استراتيجية عالية.
وفق مصادر تاريخية، العدو الإسرائيلي لم يكن غافلًا عن هذه القيمة، فقام بتضليل المحتملين المنفذين للعملية: صنع “هدف هيكلي” يبعد حوالي 2.5 كم عن المصنع الحقيقي، يتم إضاءته ليلاً لجذب نيران العدو أو المتسللين.
هذا الخداع كان خطيرًا جدًا، لأن تركيب مثل هذا الهدف الهيكلي قد يؤدي إلى توجيه الضربة إلى نقطة غير مهمة في حالة سوء التقدير.

في الفترة من 27 إلى 29 سبتمبر 1969، قاد علي عثمان دورية استطلاع مكونة من خمسة أفراد، بينهم ضابط فلسطيني (ملازم أول سليمان حلس) ورقيب فلسطيني (صالح الحواجري)، بالإضافة إلى عناصر من فدائيي منظمة فتح. ‏

تم جمع معلومات دقيقة جدًا عن موقع المصنع، الحراسة، أجهزة الإنذار المحيطة به، وكذلك الخداع الهيكلي الذي أنشأه الإسرائيليون. ‏

بعد الاستطلاع، تم وضع خطة بعيدة المدى للهجوم: تم تحديد نقطة انطلاق، تسلسل تحرك، عدد الأفراد، والذخائر المستخدمة (منهم 12 صاروخًا من عيار 130 مم). ‏

في التلقين النهائي، حضر ضباط من المخابرات الحربية والمخابرات العامة المصرية. من بينهم: الرائد ساهر لاشين من مكتب المخابرات الحربية بالأردن، والرائد ماهر خليفة من المخابرات العامة بالقاهرة. ‏

في ليلة 17 أكتوبر 1969 (آخر ضوء)، انطلقت وحدة بقيادة علي عثمان من قاعدة معان جنوب الأردن، عبر أراضٍ صعبة، باتجاه الهدف. ‏

تم استخدام الصواريخ لتفجير المصنع، وليس هجوم مباشر بالجنود: تم إطلاق الصواريخ على الهدف بدقة بعد الوصول إلى النقطة المحددة. ‏

المراقبة الدقيقة والتوقيت الحسن مكنّا الفريق من تفادي الخداع الهيكلي الإسرائيلي: بدلًا من استهداف النُسخة المضيئة من المصنع الهيكلي، نجحوا في استهداف المصنع الحقيقي. ‏

العملية لم تقتصر فقط على تدمير المصنع، بل استهدفت أيضًا محطات الكهرباء التابعة له. بعض الروايات تذكر أن هناك تفجيرات في عنابر الإنتاج أو وحدات تصنيع داخله. ‏

وجود الإنذار حول المصنع: المصنع كان محاطًا بأجهزة إنذار كثيرة، مما يعني أن أي خطأ بسيط في التوقيت أو في تحديد الهدف يمكن أن يؤدي إلى فشل المهمة أو كشف الوحدة. ‏

في مرحلة التحرك، هناك روايات تفيد بأن كمينًا (...) تم نصبه لوحدة علي عثمان أثناء العبور، وهذا يزيد من تعقيد العملية. وفق ما روى علي عثمان لاحقًا، فقد تعرض لكمين من (...) . ‏

التمويه الإسرائيلي الذكي: الهدف الهيكلي المضاء كان جزءًا من خطة خداع تتطلب من الوحدة المصرية فهمًا عميقًا لتضاريس الموقع والإضاءة، وهو ما دلّ على قدرات استخباراتية عالية لدى علي عثمان وفريقه.

نجحت العملية في ضرب مصنع النحاس، مما أضرّ بالقدرة الإنتاجية الاستراتيجية الإسرائيلية المتعلقة بالنحاس، وهو معدن مهم للصناعات الحربية. ‏

تفجير محطات الكهرباء أدى إلى تعطيل إضافي، ما يعكس أن الضربة لم تكن سطحية، بل محسوبة لتوليد تأثير أكبر من مجرد تدمير مبنى واحد. ‏

هذه العملية أكّدت قدرة المجموعة 39 قتال على تنفيذ هجمات عالية المستوى في العمق، ليست فقط ضد أهداف عسكرية بسيطة، بل البنية التحتية الحساسة. كما أنها قد تكون رسّالة استراتيجية من مصر إلى إسرائيل: بأن الضربة ممكنة حتى في مواقع استراتيجية بعيدة. ‏

من الناحية الرمزية، عزّزت هذه العملية سمعة علي عثمان كقائد فدائي لا يخاف المخاطر، وله رؤية عميقة للتخطيط العسكري والاستخباراتي.

قاد الاستطلاع شخصيًا، ما يُظهر ثقته بنفسه وبزملائه الفدائيين، وقدرته على العمل مع ضباط فلسطينيين ضمن تنظيم فتح — وهو دليل على التنسيق الوثيق بين المخابرات المصرية والفدائيين آنذاك. ‏

اتخذ قرارات حاسمة أثناء التخطيط، خاصة عندما اكتشف أن العدو أقام هدفًا هيكليًّا لخداع المهاجمين. قدرته على التمييز بين الهدف الحقيقي والهيكلي كانت مهمة جدًا لنجاح العملية.

بصفته ضابطًا من القوات الخاصة (الصاعقة) ومعرفته بعمليات القصف بالصواريخ، أشرف على التوزيع الدقيق للذخيرة (الصواريخ) ومكان إطلاق النار، وهذا يعكس خبرة تكتيكية كبيرة.

هذه العملية ليست فقط من الناحية العسكرية، بل كانت رسالة فدائية سياسية: أن الضربة المصرية يمكن أن تصل إلى “أعماق العمق”، إلى أماكن استراتيجية جدًا، وأن التمويه والخداع الإسرائيلي لن يكونا دائمًا كافيين لحمايتهم من الضربات النوعية.

نجاح علي عثمان في هذه المهمة يُظهر كيف يمكن لقيادة شابة، شجاعة، ومخططة جيدًا أن تُحدث تأثيرًا كبيرًا، حتى عندما تكون المعارضة قوية وتستخدم الألغام الاستخباراتية والخداع.

العمل مع فدائيي منظمة فتح يظهر أن العمليات لم تكن مصرية بحتة فحسب؛ بل كان هناك تنسيق مع قوى فلسطينية. هذا التكامل جعل من المهام المعقدة مثل تفجير مصنع استراتيجي ممكنة.
ةاخيرا هذا النموذج ومثله من نماذج شابة في مجالات متنوعة تحتاجه اطفالنا وشبابنا تعلمه ويدرس بأعمالهم الفاذة في مناهج التعليم الأساسي.

مقالات الرأي