الإثنين، 4 نوفمبر 2024 03:33 مـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

ليلي حسين تكتب: أبو زعيطة

ليلي حسين
ليلي حسين

ثياب الأولاد في قريتنا متشابهة ، الجلباب الكستور أو الدبلان المخطط بالأزرق أو الأخضر او البني ، هذا الجلباب القميئ هو الزي المدرسي ، وملابس اللعب والنوم ، يخفي تحته لباسا من الدمور ، أو البفتة البيضاء ،التي تتهافت النسوة للحصول عليها فهي لافتات الدعاية الإنتخابية للمرشحين من أهل القرية ، مطبوع عليها اسم المرشح و رمز اختياره هذا كف و ذاك جمل ، وآخر كنكة أو فانوس .. ساعة و هلال و ذاك جردل ، الجميع ينتظر المعارك الإنتخابية ، إذ يحصدون خلالها بعض الترف المتواضع من سلع تموينية و بعض الجنيهات . تمتلأ سحارة جدتي بتلك الرايات للفائزين في المعركة و لمن لم يحالفه الحظ ، علم المحروسة له نصيب أعظم إذ تحسن طيه بالتعظيم و التحية .

في أمسيات السمر تتفنن جدتي في صنع ملابسها الداخلية من وسائل الدعاية ، و لأنني الحفيد المحبب كانت تصنع لي حقيبتين للمدرسة أحداهما من "الدمور" وأخرى من علم بلدنا ، كم كانت فنانة الروح .. حقائب التلاميذ في المدرسة متشابهة ، و نادرا ما يصل إليها ماء الطلمبة و الصابون ..
البيوت كلها من اللبن أو الطين ، عدا بيوت أكابر البلد، العمدة لم يكن بالغ الثراء ، لكنه واسع العلاقات ، يعرف أسرار البلدة و يسمع دبيب النملة في الأسواق ..
أنا الولد الوحيد الذي اختتمت به أمي مسيرة الإنجاب ، الأصغر صاحب الحظوة بعد خمس بنات ، أمي تشكر الله و قد استجاب دعاءها ، حتى لا يتزوج أبي بامرأة أخرى لو لم تأتي له بالخليفة السند ولي العرش ، أي عرش هذا وأي ولاية .. ثروة أبي بيت بسيط و ثلاثة أفدنة و بعض الماشية و الدواجن التي تتكاثر وتكفل لنا الستر .. البنات في قريتنا تنقطع عن المدرسة والتعليم قبل بلوغ الثانية عشر من العمر ، لتبدأ مرحلة إعدادهن لمسؤولية البيت والزواج ، كارثة أن تصل البنت إلى العشرين دون بيت و زواج ، ستحظى بلقب "بائرة" !
اختار لي أبي اسم "جمال" لعشقه الشديد لجمال عبدالناصر ، هو و أهل البلد يستمعون في المقهى لخطاباته بدهشة و شغف ، صوت ناصر و صوره في كل مقهى وشارع و بيت ، إنه المثل الأعلى ..
حصلت على قدر كبير من التميز و الاهتمام في البيت ، بل في العائلة ، بعض التدليل و تفضيل في الأكل و اللعب و التعليم ، يحثني أبي على مواظبة التعليم بل و التفوق ، يواصل الاهتمام والمتابعة حتى لا أتذمر و أهرب من المدرسة كما يفعل الصغار ، يغدق علي بالتشجيع ، والحلوى مكافأة كلما حصلت على درجات التفوق في المدرسة ، مرددا : " اعيش و أشوفك زي عبدالناصر" !
لم يكن أبي يعلم ما يدور في نفسي و لم يكن لي قدرة البوح به ، أكره كل شبر في المدرسة ، الفناء الرملي الذي تسكنه القطط والكلاب الضالة بلا مقابل ، و المقاعد الخشبية المتهالكة ، و رائحة الطباشير ، التي تصيبني بموجة سعال يمنعني النوم ..
أكره جلبابي المخطط هذا الزي المدرسي الموحد الذي يعوقنا عن اللعب فنضطر إلى رفعه وحزمه إلى ما فوق الوسط ، لممارسة الرياضة بعد نهاية اليوم الدراسي ، وأحيانا نتخلى عنه و نمارس اللعب بملابسنا الداخلية .. كرة القدم الهواية التي اجتمعنا على حبها ، كثيرا ما نتفنن في صنع تلك الكرة ، من قطع الأقمشة البالية ، ولف بعض الخيوط المشبعة بال "كُلة" لإحكامها وإكسابها قوة ومتانة ، و تكون المرحلة الأخيرة بكسوتها بجورب أبي العامر بالثقوب ، هنا تتولى أمي أو إحدى أخواتي خياطة الكرة ، لتكون لي مصدر حظ و فوز في المباريات ..
كثيرا ما أتساءل بيني و بين نفسي ، هل ارتدى جمال عبدالناصر الجلباب الكستور المخطط مثلنا ، هل كانت ملابسه الداخلية من هذا "الدمور" أم من "البفتة" ناصعة البياض ، هل لعب ب "الكرة الشراب" ، هل تفوق في حفظ جدول الضرب ، وأسماء الإشارة والموصول ، هل أتقن حفظ جزء في كتاب القرية .. هل هذه الأشياء يمكنها أن تصنع رئيسا و زعيما ؟!
المدرسة تحتوي ستة فصول للمرحلة الابتدائية ، فصل واحد لكل فرقة و لا يتعدى عدد التلاميذ أكثر من ثلاثين في معظم الأحوال ..
البنات تجلس على استحياء في صف واحد و الصبيان ثلاثة صفوف ، البنات طيبات جميلات لكن لا يتشاركن معنا الحديث و اللعب ، المدرسون يتعاملون معهن بلطف ، يصل إلى حد التجاهل ، البنات منزويات في ثرثرة تصل حد الهمس بجلالبيبهن الطويلة بألوان صريحة مبهجة و ضفائرهن الطويلة تزيدهن دلالا ، أعينهن مكتحلات باسمات ساحرات ..
معلمة الرسم القاهرية استولت على محبتنا جميعا ، نشعر أنها مجهدة دائما لكنها مجتهدة لطيفة و أمينة ، في موعد الحصة تجمعنا في حجرة التربية الفنية ، حيث تمتد فيها طاولات مستطيلة نظيفة ، حولها كراسي من الخيزران ، الحجرة عالم آخر يختلف عن واقعنا الحياتي و المدرسي ، هنا تماثيل صغيرة من الطين ، ورود وفوانيس من الورق الملون ، و دمى من القماش و كثير من الأقلام الشمع و الرصاص بدرجات قوس قزح ، النوافذ هنا مبهجة ، نسعد حين توزع علينا الكراسات ذات الأوراق الداكنة ، وأقلام "الباستيل" الملونة ، في معظم الأحيان لا تفرض علينا موضوعا ، بل تترك لنا حرية اختيار ما نرسمه ، تتابع خطوطنا ، تضحك معنا ، تشجعنا و تصفق لنا ..
معلمة الموسيقا أيضا سيدة أنيقة رقيقة الملامح والصوت ، تبدو و كأنها من الحور العين التي يحدثنا عنهن الشيخ في الكُتاب ..
لماذا نتعلم الموسيقا ، هل لهذه الحصة دور في حياتنا ، لم أثقل رأسي بهذا التفكير ، حجرة الموسيقى أيضا مبهرة ، فيها أشياء لم تشهدها عيناي من قبل ،الآلات الموسيقية بأسماء غريبة تحتل "دولابا" كبيرا و بيانو .. فهم أبجدية الموسيقا صعب جدا بالنسبة لنا جميعا ، المدرسة تعزف و صوتها الحلو ينساب إلى نفوسنا مغردا .. "بلادي ..بلادي لك حبي و فؤادي" .. "اسلمي يا مصر إنني الفدا" .. و "حيوا الرسول ، حيوا المختار ، نبي كريم ، زين الأبرار" .. البنات أكثر من الصبيان تفاعلا مع المُدرِسة والغناء ، كم كنت أتمنى أن تتعلم و تتقن أخواتي البنات هذا الجمال !
الشعور بالدهشة و الجمال لا يدوم ، سرعان ما ينطلق "الناقوس" النحاسي الضخم لنهرول نجر أذيال الفقر نحو الفصل حيث السبورة السوداء و المقاعد المتهالكة التي تبرز منها بعض المسامير الصدئة التي توخزنا و لا تستحي من نقر و تمزيق جلابيبنا .. ها هو "أبو زعيطة" المدرس الكشكول ، وُكِل إليه مسؤولية تدريس الدين واللغة العربية و الحساب و هوامش في العلوم وجغرافيا ، يحدثنا عن تاريخ الوطن والقومية العربية والميثاق و الثورات و الهوية ، و كل ما يخطر على باله ونحن نحملق في صدى مفرداته في تعجب و بلاهة ، لم أفهم و لم أحب المنهج الدراسي و إن كنت أحفظه وأردده كالببغاء ..
ليس بيننا من يحب أبو زعيطة الذي يشبه برميلا ضخما داكنا ، يعلوه رأس أصلع ، يتوسطه أنف كبير يرتفع عن شفتين غليظتين و شارب أسود كثيف ، يأتي مبكرا إلى المدرسة ممتطيا بغلته التي لا تضل أبدا طريقها في دهاليز القرية و حتى المدرسة ،اعتاد أن يحمل بندقية عتيقة على كتفه لا تفارقه أبدا ، في الطابور الصباحي وفي الفصل ، و بيمينه عصا تنقض على ظهورنا ومؤخراتنا ، دون سبب و كأنها اعتادت العنف و العدوان ، نكره جميعا عصاه و نفزع من صوت احتسائه الشاي ، ولا ننكر أنه كان أمينا في فرض و تلقين الرسالة التعليمية ..
بغلة أبو زعيطة المربوطة في سور المدرسة تنعم بالشمس الدافئة نراها أكثر حظا منا فهي تنال الاهتمام والطعام، غير مثقلة بحفظ وكتابة الدروس يوميا ، و لا يلحقها أبدا الضرب بالعصا ، كم كان يربت على ظهرها ، يدور بينهما حديث خفي ، يمتطيها في طريق العودة وبندقيته التليدة مازالت معلقة على كتفه ، يلقي التحية على رجال القرية في شموخ و ثقة و كأنه "أبو زيد الهلالي" ، كيف يحتمل كتفه هذا الثقل الذي لا يتخلى عنه مطلقا ..
جدتي تغمرني بقبلاتها وتحثني علي التفوق لأصبح "خوجة" و أبي يحلم برئاسة البلد ، أنا استمع بصمت و لا أجادل .
الكهرباء دخلت معظم البيوت ، أيضا صنابير المياه الحلوة ، الدهاليز أكثر نظافة ، في أكبر مساحة من القرية وضعت الحكومة جهازا سحريا عجيبا للتوعية و الترفيه في مساءات الصيف .. التليفزيون الذي أرهق عقلي ، كيف يتحرك البشر ويتحدثون داخل هذا الصندوق السحري بشاشته التي يتابعها الرجال و النساء بلهفة وشغف ؟!
بعد أعوام قليلة تصدر التليفزيون معظم البيوت المستورة ليقدم لنا كل مفيد و محترم ،توالت الأعوام وانتقل أبو زعيطة وبغلته إلى رحمة الله دون أن يكون له زوجة أو ذرية ، نحن كنا تلاميذه و أولاده .. توفيت جدتي و فقدت حنوها و يلحقها أبي ، البنات في بيوت أزواجهن راضيات بالمقسوم ، أبي عمود البيت ، بل كل الأعمدة التي تحمل عنا الأحزان و الهموم بابتسامة طيبة .. والدتي تتولى القيادة و تبذل جهدها لحصولي على شهادة ، المدارس الإعدادية بلا جلباب ، بقميص نظيف و بنطال ، امي بفطرتها تنسق هندامي و هيئتي ، تدير شئون البيت و الأرض كأفضل وزير اقتصاد و زراعة و مالية ، و تستقبل البنات و أزواجهن بمحبة وحفاوة ، تتضاعف ساعات المذاكرة في الثانوي ، لم يكن بي ميل إلى المواد العلمية ، أحوال القرية أحسن حالا ، صور عبدالناصر مازالت تتصدر جدران البيت رغم رحيله الذي شرخ قلب أبي و المصريين ، لم أحقق حلم جدتي في أن أكون "خوجة" ، و لم أحقق حلم أبي لأن أصبح رئيس جمهورية أو وزيرا ، التحقت بكلية التجارة ، أصبحت محاسبا ، لدي خبرة كبيرة في الإدارة في إحدى الشركات ، ترحل أمي لترافق أبي برضا و نور يعلو ملامحها التي ارتشفت دموعي ، لا مكان لي و لا حبيب ، أتخذ قراري ، أغادر حدود المحروسة ، أركب الطائرة لأول مرة ، أنطلق إلي بلاد النفط ، يسطع نجمي في مجال عملي ، تتغير ألوان الحياة ، لكن مذاق الماضي الطيب البسيط عالق بحلقي ، وجه أمي تحتضنه أضلعي و صوتها نغم يوقظني كل فجر لأغتسل بالنور وأقرأ الفاتحة للراحلين ..

ليلي حسين أبو زعيطة

مقالات الرأي