د. اميرة محمد تكتب: الإيثار المعاصر


لا زلنا بصدد تصفح كتابنا الفريد الذي تصفحنا سويا أولى صفحاته في المقال السابق ألا وهو (كتاب الحياة البشرية)، فمن صفحة الطفولة استوقفتني كلمة ذات معنى ودلالة قوية، وهذه الكلمة هي (الإيثار)، تلك الصفة التي كان يحرص الآباء والأمهات في السابق على غرسها في نفوس أبنائهم منذ الصغر، وخاصة في السنوات الأولى التي تتشكل فيها وبنسبة كبيرة شخصية الطفل؛ كي يزدادوا رفعة ورقيا، فلم يكن يختلف اثنان على ضرورة وجود الايثار في طفل ما.
فموقف مثل مشاركة طفل صغير لقطعة من الحلوى مع والديه أو إخوته، بل وربما أطفال اخرون، قد يبدو في الظاهر للكثيرين أنه موقف بسيط وعابر، إلا أنه في الحقيقة موقف قوي للغاية، ولم يأت إلا بعد جهد كبير ودقيق، ولست خاطئة إن وصفت ذلك الموقف بالمهندس النابغة الذي يضع أساس متين لكبري يمر من فوق ممر مائي مياهه شديدة الانجراف.
فالإيثار هو سمة بارزة اتصف بها الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم وكذلك التابعون، وقد ورد ذكر ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية، واليوم أصبح معيارنا الحالي لقياس الموضوعات هي الحداثة والمعاصرة، فكان من الطبيعي أن نضع الإيثار على ميزان الحداثة والمعاصرة، وكان نتيجة ذلك هو ظهور صورة أخرى للإيثار شديدة الاختلاف ولا تمت بأية صلة للإيثار المتعارف عليه والذي كان ميزاناً دقيقاً للتأكد من صفاء النفس البشرية منذ وقت ليس ببعيد لكنه بات مخالف تماما لمعايير وقتنا الحالي، فبعد أن كنا نشاهد أو نسمع عن اشخاص يؤثرون الغير على انفسهم أصبحنا اليوم نشاهد بكثرة ونسمع بغزارة عن أناس يؤثرون ويفضلون أخذ كل شيء لأنفسهم حتى وإن كانوا ليسوا في حاجه لهذه الأشياء، التي هي تعد من الأساسيات للكثيرين كالطعام والشراب والملبس والخدمات الصحية...
وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها وبقوة للوقوف على ابعاد هذا المرض الذي أصبح بحاجه ملحة للعلاج، في محاولة للوقوف على بداية حقيقية لأزماتنا التي أصبحت متعددة البدايات، وبما أن الوقت لم يكن كافيا لتجميع كل الأسئلة المتعلقة بالإيثار المعاصر؛ لذا سأكتفي بطرح ثلاثة من هذه الأسئلة فقط:
فالسؤال الأول: هل الإيثار التام وتفضيل الأخرين وإهمال الشخص لنفسه تماما هو الهدف المطلوب ليتحقق الإيثار الحقيقي البناء؟
والسؤال الثاني: هل الإيثار المعاصر وليد اشخاص أم وليد زمن؟
أما السؤال الثالث: هل المجتمعات الغارقة في الإيثار المعاصر يمكن انقاذها وإعادة توازنها مرة ثانية؟
وفيما يتعلق بالإجابة على السؤال الأول: فالإيثار والحرص على الأخرين ومد يد العون لهم أمر حميد، لكن ليس معناه أن يتجاهل الإنسان نفسه كليا ويعرض نفسه للهلاك فلا يمكن للشخص أن يحرم نفسه تماما من ضروريات الحياة كالطعام والشراب لفترات طويلة ويقول أنه أثر إعطائها للأخرين الأشد حاجه، فهناك فرق بين الإيثار والزج بالنفس فيما يهلكها، فما اردت قصده بالإيثار هو ذلك الإيثار الذي وصف الله به المؤمنون في كتابه العزيز في الأيه 9 من سورة الحشر.
وبالنسبة للإجابة على السؤال الثاني: فالإيثار المعاصر الذي يعد الوصف الصحيح له هو (الأنانية الشديدة) فهو وليد الأثنان معاً، فكثير من الناس أصبحوا اليوم على استعداد لأخذ بل وانتزاع ما يرونه حق لهم ولو على حساب حياة الأخرين خاصة في ذلك الوقت الحالي الذي باتت فيه التكنولوجيا تتسابق مع الزمن بطريقة غير مسبوقة بل ومخيفه.
وتأتي إجابة السؤال الثالث: هو نعم يمكن لأي مجتمع أن يغير ويطور من نفسه في أي شيء، ولكن ذلك يتوقف على افراد هذا المجتمع وقابليتهم للاعتراف بأخطائهم والعمل الجاد على حلها والقدرة على التصدي للحملات الخارجية التي سيتعرضون لها بشراسة من أولئك المتربصون بالخارج للتأكد من تمام غرق تلك المجتمعات التي وضعوا بأنفسهم بذور الغرق لهذه المجتمعات منذ قرون عديدة.
فهذا تذكار لعقول الأخيار بمزايا وقوة الإيثار، فاللهم إيثار وانتصار لمجتمعات باتت كالنار بعد أن كانت مركزا للعطور والأزهار في بستان وصف مريديه بالأبرار.