هشام بيومي يكتب: حين تتكلم الحجارة وتنتصر السياسة للثقافة


في لحظةٍ استثنائيةٍ من تاريخها الممتد بين الماضي والمستقبل، تفتح مصر بوابة الزمن على مصراعيها، معلنةً للعالم افتتاح المتحف المصري الكبير، يوم السبت 1 نوفمبر 2025, المشروع الذي طال انتظاره منذ أن كان حلمًا في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتابعه بإصرار وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني، حتى خرج إلى النور في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، كأيقونةٍ ثقافيةٍ وسياسيةٍ تشهد أن هذا الوطن، مهما تبدّلت وجوه الحكم وتعاقبت الأزمنة، فإن جذره ضارب في أعماق الحضارة، وفرعه يلامس سماء المستقبل.
يقف المتحف العظيم، في حضن الأهرامات الثلاثة، كأنه ابنها الرابع، لا ينافسها في المجد، بل يكمّل حكايتها.
تطل واجهته الحديثة على ماضٍ حجريٍّ خالد، وتُحاكي في هندسته لغة المصري القديم الذي كان يُبدع من الصخر قصائد خالدة في الجمال والخلود.
ليس هذا الصرح معبدًا لحفظ الآثار فحسب، بل شهادةٌ حيّة على أن مصر تعرف كيف تصنع من ماضيها وقودًا لحاضرها، ومن حضارتها قوة ناعمة تنطق باسمها في العالم كله.
وفي هذا التوقيت بالذات، لا يبدو الافتتاح حدثًا ثقافيًا منفصلًا عن المشهد العام، بل هو حدثٌ سياسيٌّ بامتياز.
فبينما تنسج القاهرة خيوط شراكة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، وتشارك بفاعلية في اتفاق غزة الذي مثّل انتصارًا دبلوماسيًا ورسالةً إنسانية في آنٍ واحد، تختار مصر أن تردف السياسة بالثقافة، وأن تجعل من الفن والحضارة جناحًا آخر لتحليقها في فضاء التأثير الدولي.
هكذا تتكلم مصر بلغتين في آنٍ واحد:
لغة القوة الهادئة التي تُترجم في القاعات الزجاجية والتماثيل المتراصة، ولغة السياسة المتوازنة التي تُعبّر عن دولةٍ تعرف وزنها وتاريخها، وتدرك أن من يملك التاريخ لا يُهزم في الجغرافيا.
المتحف الكبير ليس جدرانًا من حجر، بل بيانٌ حضاريٌّ يقول للعالم:
إننا لسنا أمةً تبحث عن مجدٍ مضى، بل أمةٌ تستحضر ماضيها لتصنع مستقبلها.
كل قطعة أثرية فيه هي سطرٌ من كتاب الهوية، وكل تمثالٍ يقف شامخًا هناك يهمس للعالم أن مصر التي علمت البشرية معنى "الخلود"، لا تزال قادرة على أن تُلهمها من جديد.
لقد جاء هذا الافتتاح في لحظةٍ سياسيةٍ شديدة الحساسية، بين تحدياتٍ اقتصادية وضغوطٍ إقليمية، وكأن الدولة المصرية أرادت أن تقول للعالم — ولذاتها — إن الثقافة ليست ترفًا، بل سلاحٌ من نوعٍ آخر؛ سلاح الوعي، والجمال، والانتماء.
فحين تبني الأمم مصانع للسلاح تبني مصر متحفًا للروح، وحين تتباهى القوى الكبرى بإنجازاتها التكنولوجية تتباهى مصر بإنسانها القديم الذي كان أول من خطّ فكرة الخلود على جدار الزمن.
إن الدمج بين هذا الإنجاز الثقافي الفريد والتحركات السياسية الذكية ليس صدفة، بل يعكس رؤية دولةٍ تريد أن تعيد صياغة صورتها على خريطة العالم: دولة الحضارة والتوازن، القوة والعقل، التاريخ والمستقبل.
وفي النهاية، يبقى المتحف الكبير أكثر من صرحٍ أثريٍّ؛ إنه مرآة لوجه مصر الحقيقي: وجهٍ يعرف ماضيه، ويصنع حاضره، ويمضي بخطى ثابتة نحو غدٍ لا يقل إشراقًا عن فجر طيبة أو شمس الأهرام.
فحين تتحدث مصر، لا تتكلم فقط بلسان السياسي، بل بصوت التاريخ، ونغمة الحضارة، وضمير الإنسانية كلها.
وهكذا، يظل افتتاح المتحف المصري الكبير قصيدةً جديدةً في سجلّ مصر الخالد… تبدأ من الحجر، وتنتهي عند الحلم.
























