الخميس، 30 أكتوبر 2025 05:03 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

د. امينة زانون تكتب: التراكمات… النزيف الصامت لرصيد المحبة

بوابة المصريين

ليست العلاقات الإنسانية في جوهرها قائمة على لحظة واحدة، بل على رصيدٍ طويل من المشاعر، والذكريات، والمواقف، والاحترام المتبادل. هذا الرصيد أشبه بحسابٍ داخلي غير مكتوب، نودع فيه الكلمة الطيبة، واللمسة الصادقة، والمساندة، والتفهّم. لكن مثل أي رصيد آخر، هو قابل للان يستهلك وينضب حين تبدأ "التراكمات" في التسلّل.

التراكمات لا تبدأ كبيرة…
تبدأ صغيرة، في زاوية مهملة من الروح: موقف لم يُشرح، كلمة لم تُعتذر عنها، إحساس لم يُفهم، خذلان عابر قيل عنه: "لا مشكلة". لكنها مشكلة… لأنها بقيت بلا اسم، وبلا معالجة. وكلّما تكررت، ترسّخت. وكلّما تأجل الحديث عنها، صارت أثقل وأشدّ حضوراً.

الإنسان لا يتغيّر فجأة، ولا ينطفئ من فراغ. ما ينطفئ عادةً ليس الحب ذاته، بل القدرة على الاستمرار في بذل الجهد للذي يحب. فالرصيد يُسحب منه شيئاً فشيئاً:
صمتٌ في موضع الكلام
تجاهلٌ في موضع الاحتواء
حكمٌ في موضع التفهّم
ومع كل حادثة صغيرة، يتناقص الرصيد الحسي والعاطفي، إلى أن يأتي اليوم الذي يبدو فيه الطرف الآخر بارداً أو بعيداً… بينما الحقيقة أنه مستنزَف، لا قاسياً.

التراكمات مؤلمة لأن صاحبها لم يرد يوماً أن يتحوّل إلى مُثقَل. كان يريد أن يُفهم قبل أن يُكبت، وأن يُطمأن قبل أن يُصمت، وأن يُحتَضن قبل أن يُعاتَب. لكنها الطبيعة البشرية: حين لا نجد مساحة آمنة للتفريغ، نصنع بداخلنا جداراً، والجدار لا يحمي فقط، بل يعزل أيضاً.

أخطر ما في التراكمات أنها تعطي إيحاءً بأن المشكلة الحالية هي سبب الانهيار، بينما الحقيقة أنها "القشة الأخيرة" بعد سلسلة طويلة من السحب غير المعوَّض. فلا أحد يفقد رصيده العاطفي في لحظة، بل في مسارٍ صامت لم ينتبه له الطرف الآخر إلا متأخراً.

الحب والمعٌزة لا تموت فعلاً…
الذي يموت هو القدرة على تحمّل المزيد.

ولذلك، فإن إنقاذ العلاقات لا يكون بالوعود الكبيرة…
بل بالنظرة الصادقة التي تعترف بالألم قبل أن يتحوّل إلى بغضاء.
وبالحوار المبكر قبل أن يصبح الصمت حائطاً.
وبالاحتواء بدلاً من التفسير.

التراكمات لا تطلب الكثير كي تتلاشى — يكفي أن يشعر صاحبها بأن قلبه مسموع، وأن مشاعره لها وزن، وأن تعبه مرئي لا متروك

فحين يشتكي الطرف المتألم و يقابله الآخر بالرد: “لم أقصد”، “أنت تبالغ ،او “هذا أمر عادي .

هذه الجُمل لا تُصلح شيئًا… بل تُراكم الشعور بأن الألم غير مُعترف به.

فالإنسان لا يحتاج الحقيقة أولاً… بل الاحتواء أولاً.

تشرح نظرية “المشاعر الإيجابية” أن التعافي العاطفي لا يحدث تلقائيًا، بل يحتاج لتغذية مستمرة، وإلا تتلاشى قدرة الإنسان على التحمل بمرور الوقت.

تتحدث (ماسلاش وليتر) عن الاحتراق النفسي العاطفي، ويؤكدان أن المشكلة ليست في المشكلة نفسها، بل في تراكم عدم الفهم وغياب مساحة التفريغ.

وقد اثبتت الدراسات الحديثة ان

التراكمات = مشاعر لم تُعترف + ألم لم يجد شاهدًا + عطشٌ للاحتواء أُسيء تفسيره بالصمت.


ولهذا، فإن وقف التراكم لا يحتاج “حلولاً ضخمة”، بل إشباعًا عاطفيًا دوريًا يعيد ملء الخزان قبل أن يجف.

ليس الحل في أن نعود كما كنا…
بل أن نتعلّم كيف نصون ما تبقّى كي لا نخسر أكثر.
العلاقات لا تُشفى بالعفو السريع ولا بالإنكار، بل بالاعتراف بأن هناك شيئًا تألّم في الداخل ويحتاج أن يُسمَع قبل أن يُطلَب منه أن ينسى.


واذا تسائلنا ما الحل للتراكمات التي تسحب من رصيد الشخص العزيز علينا ؟

فالحل ليس خطوة واحدة، بل “إعادة تنظيم العلاقة من الداخل”، وهذه أهم خطواته بشكل واضح وعملي:


أوّلًا: تسمية ما يحدث بدل كتمانه

الصمت يصنع التراكم، والاعتراف يذوّبه.

ثانيًا: فتح مساحة آمنة للكلام

لا نقول ما بداخلنا أثناء الغضب، بل في وقت هادئ يُتفق عليه مسبقاً.

قاعدة ذهبية: “أنا أشعر…” وليست “أنت فعلت…”

هذا يحوّل الدفاع لاحتواء.

ثالثًا: التفهّم قبل التبرير

التعب العاطفي يحتاج حضنًا نفسيًا قبل التفسير.
أحيانًا الإنسان لا يريد حلولاً تقنية… يريد أن يشعر بأنه مُفهوم.


رابعًا: التعويض العاطفي

الرصيد لا يملأ بالكلام فقط، بل بالمواقف:

مبادرة

اهتمام

إصغاء

وقت مخصص للحديث بصدق

هذه الأمور تعيد الثقة شيئًا فشيئًا.

خامسًا: عدم السماح بتراكم جديد

يتم الاتفاق على “جلسة صغيرة دورية” للفضفضة قبل امتلاء القلب: 10 دقائق أسبوعياً = علاقة بلا خزانات ممتلئة.


سادسًا: إصلاح طريقة التفاعل

ليس الهدف أن نحل كل مشكلة، بل أن نغيّر “طريقة” التعامل معها كي لا تصبح ألمًا مكمورًا.

الخلاصة

العلاقات لا تنهار بسبب المشكلة الكبيرة، بل بسبب المشاعر الصغيرة التي لم تجد من يلتقطها.
والحل الحقيقي

يبدأ عندما نصنع مساحة تُرى فيها القلوب قبل الكلمات، ويُسمع فيها الشعور قبل التفسير، ويُحتضن فيها الضعف قبل أن يتحوّل إلى قسوة صامتة.
نحتاج إلى أن نُصالح أحاسيسنا المؤجلة، وأن نعود لنودِع في رصيد من نحب ما يسندهم لا ما يستنزفهم: إصغاء حقيقي، ووقْتٌ غير مُستقطع، ووجودٌ يحضر بالعاطفة قبل الجسد.

ليس المطلوب أن نكون كاملين…
المطلوب فقط ألّا نترك الشروخ الصغيرة تكبر حتى تتحوّل جدارًا.
فالعلاقة التي تُنقذ ليست تلك الخالية من الخلافات، بل تلك التي تتوفر فيها الشجاعة لنقول:

“لقد تراكم داخلي ما يُتعبني… وأريد أن نصلحه معًا، لا أن أبتعد صمتًا.”

مقالات الرأي

آخر الأخبار