هشام بيومي يكتب: من ريادة الأعمال إلى ريادة العطاء


في زمنٍ تعصف فيه رياح التغريب بهوية الشباب، وتتسابق فيه أصوات مُضللة لطمس القيم الأصيلة وزرع بدائل مُشوهة، تصبح الحاجة إلى القدوة الصالحة أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. القدوة ليست مجرد شخصية يُشاد بها في الإعلام، بل هي شعلة نور تسند الأجيال، وتؤكد أن الانتماء للوطن ليس شعارًا يُرفع، وإنما فعلًا يُترجم في خدمة الناس، وبناء الإنسان، وحماية الهوية من التلاشي. وفي عالمٍ يتعرض فيه الشباب لمحاولات التشكيك في ثوابتهم، تأتي النماذج الحقيقية لتُثبت أن النجاح لا ينفصل عن القيم، وأن العطاء أعظم وسام يمكن أن يحمله الإنسان في رحلته.
ومن بين هذه النماذج المضيئة، تبرز سيدة الأعمال والإنسانة هبة السويدي، التي حوّلت الألم الشخصي إلى رسالة إنسانية كبرى، وجعلت من ريادتها في مجال الأعمال جسرًا لريادة أوسع وأعمق، هي ريادة العطاء.
إن قصة هبة السويدي ليست مجرد سطور في سجل النجاح، بل هي درس لكل شاب وشابة بأن بإمكان الفرد، مهما كانت خلفيته، أن يصنع فرقًا حقيقيًا في حياة الآخرين. لم تنتظر منصبًا، ولم تبحث عن أضواء الشهرة، بل آمنت أن القوة الحقيقية تكمن في العطاء، وأن ريادة الأعمال يمكن أن تلتقي بالرحمة، لتصنع إنجازًا خالدًا.
وُلدت هبة هلال السويدي في 22 سبتمبر 1973 بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، لأب مصري وأم سعودية، ونشأت في بيئة متعددة الثقافات أثرت في شخصيتها بشكل كبير. حصلت على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي من جامعة الملك عبد العزيز عام 1995. بعد زواجها من ابن عمها أحمد عبد الكريم السويدي، انتقلت إلى مصر لتبدأ مرحلة جديدة في حياتها المهنية والإنسانية.
بدأت هبة مسيرتها العملية في مجال ريادة الأعمال، حيث كانت منخرطة في إدارة أعمالها الخاصة وشاركت في مجموعة "هلال السويدي – إنرجيا". لكن الحدث الذي غيّر مسار حياتها كان ثورة 25 يناير 2011، حين قررت التفرغ الكامل لخدمة المصابين والجرحى. لم تكتفِ بالدعم المادي أو المعنوي، بل شاركت بنفسها في نقل المصابين، وتكفلت بعلاجهم داخل مصر وخارجها. قدمت الرعاية الطبية والنفسية لأكثر من 4000 مصاب، مما أكسبها عن جدارة لقب "أم الثوار".
في عام 2013، أسست هبة السويدي مؤسسة "أهل مصر"، وهي أول مؤسسة غير هادفة للربح متخصصة في علاج وتأهيل ضحايا الحروق في مصر والعالم العربي. استهدفت الجمعية الفئات الأكثر تهميشًا، وركّزت على توفير الرعاية الطبية المجانية، والدعم النفسي، والتأهيل الاجتماعي للمصابين.
لم يكن هدفها تقديم مساعدة مؤقتة، بل بناء منظومة متكاملة لإنقاذ الأرواح وإعادة الأمل. أطلقت المؤسسة حملات توعوية كبرى بمشاركة شخصيات عامة ومشاهير للتعريف بمخاطر الحروق وطرق الوقاية منها. وكان من أبرز مشروعاتها مستشفى أهل مصر لعلاج الحروق بالمجان، والذي يُعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط.
إدراكًا منها لدور المرأة في دعم الأسرة والمجتمع، أطلقت السويدي برنامج "ستات مصر" التابع لجمعية "أهل مصر"، بهدف تمكين السيدات المعيلات من خلال التدريب على الحرف اليدوية وتوفير فرص العمل والتسويق. تجاوز المشروع مرحلة الدعم إلى مرحلة التمكين الحقيقي، حيث أصبحت كثير من النساء قادرات على إعالة أسرهن بكرامة واستقلالية.
واجهت هبة السويدي صدمة شخصية كبيرة عندما فقدت ابنها إسماعيل في حادث مأساوي. بدلاً من أن تنهار، حولت ألمها إلى طاقة إيجابية، وعمّقت التزامها بقضية علاج الحروق. تقول إن فقدان ابنها جعلها أقرب إلى الألم الإنساني، وأكثر إصرارًا على تخفيفه عن الآخرين.
حظيت هبة بتكريم واسع داخل مصر وخارجها، حيث اختيرت ضمن "أكثر 50 امرأة تأثيرًا في الاقتصاد المصري" عام 2016. كما لُقّبت بـ"ماما هبة" و"ملاك الحروق" و"امرأة هزّت عرش النار"، لما تمثله من نموذج نادر في الجمع بين ريادة الأعمال والعمل الخيري المؤسسي المنظّم.
لا تتوقف هبة السويدي عند حدود المبادرات الإنسانية، بل تطمح إلى بناء نموذج متكامل للعمل الخيري في مصر، قائم على الاستدامة والمأسسة والشفافية. ترى أن المجتمعات لا تنهض إلا بمزيج من الإحساس بالآخر، والتخطيط العلمي، والعمل الجماعي. وتسعى لتكرار نموذج مستشفى أهل مصر في أكثر من محافظة، ولتوسيع برامج الوقاية والتوعية.
قصة هبة السويدي ليست فقط قصة نجاح، بل قصة إيمان بأن الفرد قادر على إحداث تغيير جذري في المجتمع، متى امتلك الرؤية والنية الطيبة والعزيمة. إنها دعوة لكل شاب وشابة أن يكونوا فاعلين في وطنهم، وأن يدركوا أن بناء المجتمعات لا يكون فقط بالمشروعات الربحية، بل بالمبادرات النبيلة التي تُنقذ الأرواح وتُعيد الكرامة للإنسان.