هشام بيومي يكتب: ”حين تتحول الموسيقى إلى صرخة ضمير عالمي”


في قلب لندن، حيث تلتقي الحضارات وتتعانق الأصوات القادمة من كل أنحاء الأرض، ارتفعت الألحان هذه المرة لا لتبهر الحواس فحسب، بل لتوقظ الضمائر. حفل "معًا من أجل فلسطين" لم يكن مجرد ليلة موسيقية، بل كان بمثابة صلاة جماعية من آلاف القلوب التي اجتمعت تحت سقف واحد، تنشد العدل وتبكي غزة وتعلن أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا في مواجهة القبح والدمار.
أكثر من 12 ألف إنسان احتشدوا في "أوفو أرينا ويمبلي"، لم يجمعهم جنس ولا دين ولا لغة، بل جمعتهم دمعة فلسطين ونداء غزة. كان المشهد أكبر من عرض موسيقي؛ كان لوحة إنسانية مرسومة بالدموع والتصفيق، تتخللها أصوات فنانين عالميين وفلسطينيين حملوا رسائل الحب والمقاومة، ليحوّلوا الألم إلى لحنٍ، والوجع إلى قصيدةٍ تُغنّى على مسامع العالم.
برايان إينو، الموسيقار البريطاني، لم يكن مجرد منظم للحفل، بل بدا كأنه مايسترو الضمير، يقود أوركسترا إنسانية ضد الصمت العالمي. ومعه، جاءت كلمات المقررة الأممية فرانسيسكا ألبانيز كطعنة في جدار التواطؤ: "إسرائيل قتلت أكثر من 65 ألف إنسان في غزة… الموت لا تسببه القنابل وحدها، بل العطش والجوع والعدوى". كلماتها دوّت في القاعة كأنها صدى أرواح الشهداء، تُذكّر العالم بأن ما يجري ليس حربًا عابرة، بل جريمة ضد الإنسانية.
وفي لحظةٍ مؤثرة، أعلنت مقدمة الحفل جميلة جميل أن التبرعات تجاوزت 1.5 مليون جنيه إسترليني. لم يكن الرقم في ذاته هو المعجزة، بل ما يحمله من معنى: أن غزة المحاصرة نجحت في اقتحام قلوب البعيدين، وأن العالم، رغم كل قسوته، لا يزال يحتفظ بجذوة من إنسانية.
كان الحفل أشبه بجسرٍ ممتد من شوارع لندن المضيئة إلى أزقة غزة المعتمة. كل نغمة موسيقية كانت بمثابة شمعة، كل تصفيق كان كأنه وعدٌ بالوفاء، وكل دمعة سالت من عين متفرج بريطاني أو عربي أو أجنبي كانت دليلاً على أن الجرح الفلسطيني لم يعد جرحًا محليًا، بل صار جرحًا كونيًا.
لقد كشف "معًا من أجل فلسطين" أن الفن ليس رفاهية، بل مقاومة. وأن الأغنية تستطيع أن تفضح الظلم بقدر ما تفعله الكلمة الصارخة أو الصورة الموجعة. هذه الليلة أعادت إلى فلسطين حضورها في الضمير العالمي، وأكدت أن غزة، رغم القصف والحصار، لا تزال قادرة على جمع البشر حولها، وتذكيرهم بأن الحرية ليست حلمًا بعيدًا، بل حقًا مقدسًا.
لندن في تلك الليلة لم تكن مجرد مدينة غربية، بل تحولت إلى مساحة إنسانية مفتوحة، حيث امتزجت الموسيقى بالبكاء، والأمل بالغضب، لتُكتب شهادة جديدة: أن فلسطين ليست وحدها، وأن هناك دائمًا من يغني لها، ويبكي لأجلها، ويصرخ باسمها في وجه العتمة.