الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 03:11 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: الوعي الجمعي إلى أين في عوالم الأصفار

بوابة المصريين

في ليلة هادئة، أضاء "أدم" شاشة جهازه الذكي، ليسأل عن بطولات حرب أكتوبر، التي كان جده أحد شهدائها، وطالما حكى له والده بفخر شديد عنها، وتعلمها في المدرسة. طرح سؤاله بمشاعر طفل يتلهف لسماع قصة يحبها، منتظرا أن يعيد عليه "الصديق" الرقمي ذات الرواية. لكن الإجابة التي تلقاها كانت كالسهم المسموم؛ فالذكاء الاصطناعي قدم له رواية جديدة، مختلفة، مشوهة. قيل له أن المعركة لم تكن بتلك الضراوة، وأنها انتهت قبل أن تبدأ، وأنها مجرد مفاوضات واتفاقيات أعادت الأرض دون قتال يذكر، دون تضحيات تذكر، دون سفك دماء، وأن التاريخ لم يكن كما رُوي. بينما كان يقرأ الإجابة، بدأت الشكوك تتسلل إلى عقله كالنمل الأسود. هل كانت القصص التي رواها والده مجرد أساطير؟ هل كانت الكتب المدرسية كاذبة؟ شعر للحظة وكأن الأرض تتزلزل تحت قدميه، كأن سنوات من الاعتقاد الراسخ قد تحولت إلى أوهام.
لحظات قليلة كفيلة بأن تهز صورة راسخة في وجدانه منذ طفولته المبكرة. لقد قدمت له الآلة "الحقيقة" مغلفة بغلاف براق، مدعمة بـ"أدلة" و"مراجع" تبدو مقنعة، لكنها في الحقيقة محض تلفيق مدروس.
وهكذا، بضغطة زر، يمكن لوعي إنسان أن يُعاد تشكيله، يمكن لتاريخ أمة أن يُعاد كتابته، يمكن لذكرى شعب أن تُمسخ. إنها قوة هادئة لا تصدر دويًا، لكن تأثيرها قد يهز أركان هويات بأكملها.
عزيزي القارئ، المنبهر مثلنا جميعا بالذكاء الاصطناعي، الواثق بلا حدود في قدراته وصحة ما يقدمه لك، هل فكرت يوما أنه مجرد مرآة، لا تخلق من العدم، بل تعكس فقط ما وضع أمامها، هل تساءلت يوما عمن يقف خلف تغذيته بهذا الكم الهائل من المعلومات، هل تساءلت إذا كان، من يقوم بذلك، بالقدر الكافي من الحياد والأمانة في نقل المعلومة، وعدم تحريف الحقائق والوقائع؟
ربما يكون المثال السابق فجا وقاسيا، لكنه ليس ببعيد. ففي عتمة هذا العصر الرقمي، تنمو زهور سامة في وادي المعرفة، يرويها أناس بأيد خفية، من مياه ملوثة بالتحيز والأجندات. الذكاء الاصطناعي، الذي من المفترض أن يكون مرآة صافية للحقيقة المطلقة، قد يُمسح عليه بخفة ليصير مرآة سحرية، تعكس ما يريد السحرة رؤيته. يقدم لنا العالم في طبق من بلور، لكن البلورة قد تكون مشغولة بعناية لتكبير تفاصيل وتصغير أخرى، حتى نرى صورة مقصودة، صممها من يمسك بمقود التوجيه.
الذكاء الاصطناعي من الممكن جدا أن يكون سلاح تضليل معلوماتي؛ فالحقائق تذوب تحت شمس المصالح، والأجيال القادمة تشرب من ينابيع قد تكون مسمومة بأكاذيب جميلة المظهر. كل نقرة على لوحة المفاتيح، كل سؤال نطرحه على هذه العقول الاصطناعية، قد يقودنا إلى متاهة من المعلومات المصممة بعناية، لتخدم روايات بعينها. فمن يحمي الأجيال القادمة من هذا الخطر الخفي، القادم لا محالة.
إن الثقة المطلقة في هذه الآلات هي كمن يغلق نوافذ بيته ويترك أبوابه مشرعة للرياح. الخطر ليس في التقنية نفسها، بل في الأيدي التي تمسك بخيوطها، والتي يمكن أن تحيك لوحة من الأوهام، تبدو أكثر إقناعا من الحقيقة ذاتها.
في زماننا هذا، لم تعد المعركة على الأرض فقط، بل أصبحت معركة على العقول والذاكرة الجمعية. إنها حرب صامتة تشنها شاشات براقة، تقدم لنا أكاذيب جميلة على أنها حقائق، وتقدم لنا التضليل على أنه معرفة، لذلك يجب أن نُسائل كل ما يُقدم لنا. نبحث وراء الكلمات، ننقب في الكتب القديمة، نحفر في الأرشيف. نعود دائما للمصادر الموثقة للمعرفة، الكتب التي تحمل في صفحاتها العتيقة حكايات الزمن الحقيقي، إلى المكتبات التي تحتضن تنوع الفكر وصراعاته عبر العصور. لنبحث بأكثر من وسيلة في كل الدروب والمسالك. لأن الحقيقة أغلى من أن نعهد بها إلى خوارزميات قد تُختطف بأيد خفية.
وتبقى الكتب هي الأصدق، تحمل في طياتها شهادات حية، موثقة، لم تخضع لتحريف الوسائط الرقمية. فيها نجد البصمات الأصلية لأفكار بشر، لم يغير مسارها مبرمج، ولم تخضع لأهواء وأجندات، ولم يحرفها خوارزم. من المؤكد أن البحث عن الحقيقة رحلة شاقة، لكنها السبيل الوحيد للوصول للحقائق كما هي، خير من الإجابات سابقة التجهيز. ولا ننسى أن هذا الكيان الافتراضي مجرد أداة بين أيادي بشر، ريشة لا تكتب بنفسها، بل تنقل ما يمليه عليها إنسان.

مقالات الرأي