هشام بيومي يكتب: فن الإنتصار علي النفس


بعد أن أخذتني قضايا كبرى لا يمكن الصمت عنها—من التعليم وتحدياته إلى خط قطار أبوظبي–حيفا وما يحمله من أبعاد وطنية—أعود اليوم إلى ميداني الأصلي: علم النفس التحفيزي.
أعود إليه لأن الإنسان، مهما ازدحم حوله العالم بالأسئلة المقلقة، يظل محتاجًا إلى سؤال داخلي واحد يغير مسار حياته:
كيف أضبط نفسي لأصنع ما أريد؟
نعود إذن إلى جوهر القوة الإنسانية… إلى الانضباط الذاتي؛ تلك الشرارة التي تجعل الفوضى تنصاع، وتجعل الحلم يمشي على قدمين، وتجعل الفرد قادرًا على أن ينهض رغم كل ما يحدث حوله.
هناك لحظة فارقة في حياة كل إنسان… اللحظة التي يقرر فيها أن يبدأ. لكن بين القرار والإنجاز مسافة طويلة لا يقطعها الذكاء وحده، ولا يحسمها الحظ، ولا تنجزها الظروف. تلك المسافة لا يعبرها إلا من امتلك فضيلة واحدة: الانضباط الذاتي.
إنه ذلك الحارس الداخلي الذي يرافقك في ساعات الفجر الباردة حين يغلبك النعاس، وتريد العودة إلى دفء فراشك، فيهمس لك: “انهض… فالأحلام لا تُنال بالنوم.”
الانضباط الذاتي ليس قيدًا يُكبّل الحرية، بل هو القوة التي تمنحك القدرة على أن تقول “لا” لرغباتك السريعة، و”نعم” لأهدافك البعيدة.
هو فنّ بسيط في شكله، عظيم في أثره:
أن تلتزم بما بدأت حتى النهاية.
أن تواصل السير حين يتوقف الآخرون.
أن تهزم رغبة التأجيل بالخطوة الأولى.
قال ديل كارنجي ذات مرة: “الناجح شخص يفعل الأمور التي يخشى الآخرون فعلها.”
ولن تستطيع أن تفعل ما تخشاه إلا إذا امتلكت هذا الانضباط الذي يدفعك إلى مواجهة نفسك أولًا… قبل مواجهة العالم.
لماذا يصنع الانضباط الفارق؟
لأن الحياة ببساطة لا تُنجز بالعواطف وحدها.
العاطفة تمنحك الحماس، لكن الانضباط يمنحك الاستمرار.
الحماس قد يشتعل يومًا وينطفئ أيامًا، أما الانضباط فهو مثل الشمس… يظهر كل يوم، وفي ظهوره تكمن المعجزة.
إن الانضباط الذاتي يحوّلك من شخص يعيش بردّ الفعل إلى إنسان يصنع الفعل نفسه.
يجعلك قادرًا على:
1. توجيه وقتك بدل أن يضيع في التفاصيل الصغيرة.
2. ترتيب أولوياتك حسب ما يقربك من هدفك، لا حسب ما يروق لك في اللحظة.
3. الاعتذار من نفسك حين تخطئ، والعودة فورًا إلى الطريق بلا جلد ولا تبريرات.
هناك أشخاص تظن أنهم أكثر ذكاءً أو حظًا، بينما الحقيقة أنهم أكثر انضباطًا.
النجاح لديهم لم يعد صدفة، بل عادة يومية.
يستيقظون في الوقت نفسه، يكتبون أهدافهم، ينجزون جزءًا مهما كَبر أو صغر، فيكبر معهم هدفهم خطوة خطوة.
الانضباط يجعل الفرد قادرًا على:
تحويل الفكرة إلى خطة، والخطة إلى خطوات، والخطوات إلى إنجاز ملموس.
مواجهة المشتتات التي تحاول كل دقيقة خطفه بعيدًا عن حلمه.
تنمية قوة الشخصية لأنه يتعلم أن يقود نفسه قبل أن يقود أي شخص آخر.
ومن عجيب الحياة أنها تُكافئ المنضبطين دائمًا.
لا لأنهم الأفضل، بل لأنهم الأكثر استمرارًا… والأحلام تحبّ من يداوم عليها.
الانضباط ليس هبة تولد معها، بل مهارة تبنيها كما يبني الرياضي عضلاته.
وأهم خطواته:
1. ابدأ صغيرًا
لا يهم أن تحقق كل شيء اليوم… المهم أن تبدأ بشيء.
خطوة صغيرة يوميًا أفضل من حلم كبير مؤجل.
2. احكم سيطرتك على وقتك
اكتب ما ستفعله قبل أن يبدأ يومك، فالفوضى أكبر عدو للانضباط.
3. قاوم إغراء التسويف
التسويف يزيّن لك الراحة، لكنه يخفي خلفه ندماً طويلًا.
والإنجاز يطلب منك ألمًا صغيرًا… لكنه يمنحك سعادة كبيرة.
4. كافئ نفسك
الانضباط ليس حربًا مع الذات، بل رحلة تُقدّر فيها خطواتك وتحتفل بها.
5. ذكّر نفسك بسبب البداية
كلما شعرت بالتعب، عد إلى السبب الذي دفعك للبدء.
فالإنسان لا يتعب من العمل، بل من فقدان المعنى.
الانضباط الذاتي… فن الانتصار على النفس
في النهاية، النجاح ليس نتيجة ضربة حظ، ولا معجزة تهبط فجأة.
النجاح هو ثمرة يوم واحد… يتبعه يوم آخر… ثم آخر، في سلسلة من الجهد الهادئ المستمر.
وحين يقف الإنسان على قمّة نجاحه، يكتشف الحقيقة التي كتب عنها ديل كارنجي منذ زمن بعيد:
“أعظم انتصار يحققه الإنسان… هو انتصاره على نفسه.”
فإذا أردت أن تصنع مستقبلًا يستحقك، فلا تنتظر ظروفًا مثالية ولا فرصًا ذهبية.
ابدأ من الآن، واصنع انضباطك… ثم دع انضباطك يصنعك
























