فيفيان سمير تكتب: عندما تُرفَع القيود.. هل نبقى بشرًا؟


ست ساعات هزت ضمير البشرية في ليلة شتوية من عام 1974. وقفت الفنانة الصربية مارينا أبراموفيتش في غاليري بنابولي كتمثال حي على طاولة، بجانبها 72 غرضا من وردة إلى مسدس، قائلة: "أنا العدة. افعلوا بي ما تشاءون لـ 6 ساعات، لن أعترض ولن يحاسب أحدكم، أنا أتحمل المسؤولية." تلك الليلة لم تكن تعلم أنها ستُولد من جديد بجراحٍ تفضح أعماق النفس البشرية، من خلال تجربة "Rhythm 0" التي تعد أحد أشهر أعمالها.
بدأ الأمر بلطف مخادع بلمسات حذرة خجولة، فهذا رجل يضع عليها باقة ورد، امرأة ترسم قلبا على خدها، ثم بدأت رقصة العنف الصاعدة حيث انزلقت الأمور إلى حافة الموت. شاب يمزق فستانها بالمقص، سيدة تُلصق ورودا على جسدها العاري بمسامير، وأخيرا رجل يوجه المسدس إلى صدغها ويحاول سحب الزناد. المفارقة الأكثر قسوة كانت أن الجميع التقطوا الصور، ولا أحد تدخل إلا في اللحظة الأخيرة.
لم تكن التجربة اختبارا للفنانة، بل مرآة للجمهور، حيث تحولت الحرية المطلقة إلى ساحة اختبار للوحش الكامن الذي أنطلق في فوضى العقل الجمعي. سيكولوجية المشاركين تكشف حقائق مرعبة، حين تُرفع عنك القيود وتأمن العقاب، تنطلق رغباتك وشهواتك الفوضوية، يتملكك الفضول المرضي "ماذا سيحدث لو جربت؟" يليه التبرير الجماعي لفعلك؛ فالآخرون يفعلون لمَ لا أشارك؟، والذي يقودك إلى رغبة التملك المجنون. في تقرير نفسي لجامعة ميلانو (2020) 73% من البشر يعترفون قائلين: "لو كنت هناك، لكنت جربت شيئا على الأقل."
هل أغضبتك التجربة؟ هل شعرت بفوقيتك الأخلاقية لأنك لن تفعل ما فعل هؤلاء الغوغاء في تلك التجربة؟ هل تباهيت أمام نفسك بأنك أكثر تحضرا ورقيا؟ دعني أصدمك صديقي، في عصر التواصل عبر العالم الافتراضي، صرنا جميعا مشاركين في نسخ معدلة من التجربة. من 1974 إلى 5202 تحول الاعتداء من جسدي مباشر إلى الاعتداء الرقمي، تنمر، تشهير، تهديد، ومن 6 ساعات محددة إلى تعذيب لا نهائي حيث ينشر المحتوى ألاف المرات وربما ملايين المرات، ومن ضحية واحدة مرئية إلى ملايين الضحايا الخفيين؛ فهل نستحق أن نكون أحرارا؟
عندما انتهت الـ 6 ساعات، تحركت مارينا نحو الجمهور ففروا كالفئران، هربوا لا من الفنانة، بل من مرآة أرواحهم المشوهة. اليوم، كلما أردنا اختبار حدود حريتنا، علينا تذكر تلك الليلة، الحرية التي لا تحمل مسؤولية هي مجرد وحشية، في قبو كل منا مسدس ووردة، والسؤال أيهما ستختار عندما يُرفع عنك العقاب؟
عندما سُئلَ المشاركون في تجربة "Rhythm 0" لاحقا: "لماذا قطعتَ ثوبها؟ لماذا وجهتَ المسدس؟"،
كانت الإجابة الأكثر إيلاما: "لم أظنني سأفعل.. حتى فعلت." هذه الفجوة بين تصور أخلاقياتنا وسلوكنا الفعلي هي أخطر اكتشافات علم النفس الحديث "لا تعرف نفسك إلا عند منحك السلطة المطلقة". الشر ليس صفة في أشخاص محددين، بل هو بذرة في كل إنسان تزهر في التربة المناسبة.
بسبب وهم المناعة الأخلاقية أنت لا تعرف نفسك حتى تواجهها في محك وقد تصدمك بواقع أبعد ما يكون عن تصورك. دراسة جامعة زيورخ (2020) أظهرت أن 89% من الناس يعتقدون أنهم لن يؤذوا آخرا لو أمنوا العقاب، لكن التجارب تُظهر أن النسبة الحقيقية أقل من 40% وذلك لأن أدمغتنا تخدعنا بـتحيز التفوق الأخلاقي فأنا أفضل من الآخرين.. أنا مختلف، في حين أن الواقع يثبت أن الأخلاق هشة كـالزجاج أمام الضغوط المختلفة.
في إعصار كاترينا، حين انهارت الدولة لستة أيام، سرق اثنان وستون بالمئة من الناجين متاجرا، بينما خاطر ثمانية وثلاثون بالمئة بأنفسهم لإنقاذ غرباء.
في يناير 2011، بينما كان "ميدان التحرير" يموج بملايين المصريين المطالبين بالحرية، كسرت الثورة قيود الخوف، وكشفت أيضا عن الوحش الكامن الذي تحدثت عنه مارينا أبراموفيتش. دون تخطيط مسبق، تحولت مصر إلى مختبرٍ حيٍ لاختبار ماذا يفعل البشر عندما ينهار القانون؟ الوجه المضيء تجلى في التضامن الذي هز العالم، صورة شباب يحمون المتحف المصري ليلا، دار الكتب، قصر عابدين بأيد متشابكة، شباب ينظمون حراسة الأحياء، حتى دون سلاح، أطباء يعالجون الجرحى على الأرصفة لكن الوجه المظلم لم يغب عن المشهد، فأطل علينا الوحش الذي استيقظ، انهيار السجون الذي أسفر عن 11 ألف سجين هربوا، موجة عاتية من نهب 132 متحفا ومخزن آثار بحسب تقرير وزارة الآثار 2012. الأبشع من ذلك كان إطلاق النار على مستشفى القلب القومي وسرقة أجهزة طبية، كذلك نهب مصنع أجهزة كهربائية بالكامل في 6 أكتوبر خلال ٣ ساعات، ونهب العديد من المتاجر والمولات. شهادة ضابط شرطة (طلب عدم ذكر اسمه) قال: "بعض من نهبوا كانوا جيراننا.. رجالا طيبين بالأمس، تحولوا إلى ذئاب اليوم".
ثورة 25 يناير لم تكن مجرد سقوط نظام، بل كانت اختبارا عميقا للنفس البشرية، حيث رأينا أعظم تضامن عرفه التاريخ الحديث، كما رأينا أسوأ توحش كشفه انهيار الدولة. الثورة لم تخلق الشرور، بل كشفت ما نخفيه تحت قناع القانون. نفس البلد، نفس اللحظة، ونفس البشر الذين يحملون في صدورهم بذرة التضحية وبذرة الوحشية معا.
نحن أبناء اللحظة الفاصلة حين نختار أن نمتنع عن فعل قادرين عليه، حين تنتصر على ذلك الهمجي داخلك عندما تغيب القيود، وتختار الأخلاق حتى لو كنت تعلم أن لا أحد يراك. نحن لسنا ملائكة ولا شياطين، بل كائنات تحمل النقيضان، قد نُذهل بأنفسنا حين نسقط في الهاوية، أو نُذهل بها حين نصعد إلى القمة. الفارق بين الوحش والإنسان ليس جينيا، بل هو ذلك النشاط المكثف في القشرة الجبهية للدماغ، مقر الحكمة والضمير، كما أظهرت فحوصات الرنين المغناطيسي. كأن تلك المنطقة الصغيرة هي الحارس الأخير لإنسانيتنا حين تنهار كل الحصون. تنتصر على ذلك الهمجي داخلك حين تغيب القيود، وتختار الأخلاق حتى لو كنت تعلم أن لا أحد يراك.