الأحد، 29 يونيو 2025 12:43 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب: عصر الكوانتم

بوابة المصريين

كان ضوء الفجر يتسلل عبر النافذة الذكية، بينما هو يتلقى رسالة من ساعته الكمية نصها: "احمل حقيبة الدواء الزرقاء اليوم.. الجو ممطر والأوزون منخفض". لم تكن هذه تنبؤات الطقس العادية، بل خريطة لحالته الصحية والظروف المناخية المؤثرة عليها، أنتجها حاسوبه الكمي الصغير بعد رصد 60 مليون متغير في جسده أثناء الليل.

في طريقه إلى العمل، مرت سيارته، الذاتية القيادة، بجوار شاحنة تحمل شعار "كوانتم فود". كان نظام النقل الذكي قد اختصر الزحام بنسبة 90%، بعد أن حل الحاسوب المركزي للمرور 10 مليارات معادلة في ثانية واحدة لتوزيع المركبات. هنا نتذكر كلمات العالم مايكل نيلسن: "الحواسب الكمية ستكون كالبرق.. ترى ما لا نراه".

عزيزي القارئ

هذا المشهد الذي قرأته لتوك هو صورة الحياة كما يتوقعها العلماء في خلال بضع سنوات. عندما تُطلِقُ فوتونا واحدا في متاهة من المرايا الكمومية، فأنت لا تُشغل آلة فحسب، بل تُحرك كونا موازيا تسكنه احتمالات لا تُعد. هذه الآلات الجبارة ليست مجرد تطور تقني، بل زلزال يهز أسس الحوسبة التقليدية، ويُنبئ بثورة ستلمس كل زاوية من حياتنا.

في عالم الطب، تعدنا هذه التكنولوجيا بقفزة تاريخية. فالقدرة على محاكاة الجزيئات بدقة كوانتية قد تُحدث انقلابا في اكتشاف الأدوية. شركة "غوغل كوانتم" أعلنت عام 2023 عن محاكاة جزيء الهيدروجين بدرجة غير مسبوقة (Nature Journal)، فيما تتوقع "ماكنزي" أن تُختصر مدة تطوير الأدوية بنسبة 50% بحلول 2035. وفي معركة الطاقة، تعدنا الحوسبة الكمومية بحل ألغاز الاندماج النووي، حيث تعمل "أوك ريدج" الوطنية على نمذجة البلازما بدرجات حرارة تفوق الشمس، وهو ما قد يحقق حلم الطاقة النظيفة اللامحدودة، وفقا لتقارير الوكالة الدولية للطاقة (2024).

أما الزراعة فستشهد تحولا جذريا عبر فك شيفرة التمثيل الضوئي على المستوى الذري، مما قد يخلق محاصيل مقاومة للتغير المناخي. وفي مدن المستقبل، تُبشر الخوارزميات الكمومية بحل أزمات المواصلات عبر تحليل فوري للبيانات المرورية، كما في مشروع "كوانتم ترافيك" في طوكيو الذي يستهدف خفض الاختناقات بنسبة 30% بحلول 2030 (تقرير معهد طوكيو للتكنولوجيا).

لكن ظلال مخاطر هذه التكنولوجيا تطرح أسئلة وجودية تمس كياننا البشري؛ فخطر "خوارزمية شور" يلوح كسيف مسلط على رقاب أمننا الرقمي. تقرير الأكاديمية الوطنية الأمريكية للعلوم (2023) يحذر قائلا: "أنظمة التشفير الحالية ستُصبح أثرا بعد عين مع ظهور حواسب كمومية عملية". ووراء هذا يقبع شبح الاستبداد الرقمي، حيث قدرة هذه الآلات على معالجة بيانات تعادل محفوظات مكتبة الكونجرس في ثوان، تمنح أنظمة المراقبة قوة لم يحلم بها طغاة التاريخ، كما يوثق تقرير "هيومن رايتس ووتش" (2024).

أما التحدي الأعمق فيكمن في اغتيال العقل البشري، حين نتحول جميعا إلى مجرد رقم في خوارزمية تتحكم بمصائرنا. عندما تحل الآلة الكمومية معادلات تعجز عنها أعتى العقول، فيتحول العلماء إلى مجرد مشغلي آلات. دراسة "هارفارد للعلوم والتكنولوجيا" (2024) تُحذر من فقدان 40% من المهارات التحليلية البشرية في حقول مثل الكيمياء الحاسوبية.

وهنا يطفو السؤال المصيري أليس في هذا انتهاك لقدسية الوعي؟ الفيزيائي "روجر بنروز" يُجيب في كتابه "عقل الكون" (2020): "الآلة تُوسّع مداركنا لكنها لا تُنتج الوعي". فالخطر الحقيقي ليس في التكنولوجيا، بل في استسلامنا لفكرة أن الحقيقة تُختزل في معادلة. التجارب في "مختبر كافلي للأنظمة العصبية" (2023) تثبت أن العقل البشري يحوي تعقيدات لا تُختزل إلى خوارزميات.

لكن السؤال ليس ماذا تستطيع الآلة أن تفعل؟ بل ماذا سنفعل نحن بكل هذه القوة؟

البشرية لم تستسلم. فالحلول تنبثق من رحم الأزمة. "تشفير ما بعد الكم" يقدم حصونا جديدة كما في معيار "كريستالز-كايبر" الذي تبنته NIST عام 2024. المعاهدات الدولية مثل "ميثاق لاهاي للأمن السيبراني" (2023) تحظر استخدام هذه التقنيات في الهجمات على البنى التحتية الحيوية. وفي قاعات الدرس، تتبلور فلسفة جديدة لـ"الأخلاقيات الكمومية" تُدرس في جامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس منذ 2022.

عزيزي الساعي نحو المستقبل

الحواسيب الكمية ليست سحرا.. بل مرايا تعكس أعماق كون مازلنا نجهل أسراره. ستكشف لنا خبايا الجينات، وتشق لنا طرقا بين النجوم، لكنها قد تسرق إنسانيتنا إن أَسلمناها قلوبنا. فلتكن سيدا لعقلك، لا عبدا لآلتك. فالتاريخ يعلمنا أن كل قوة تخرج بدون حكمة تتحول إلى وحش مدمر، والمستقبل ليس للآلات وحدها، بل للبشر الذين يروضون جبروتها بحسب قيمهم، وكما كتب الفيزيائي كارلو روفيلي في "ترتيب الزمن": "أعظم معجزة في الكون ليست في الكوانتم، بل في الوعي البشري القادر على سبر أغواره".

مقالات الرأي