الأحد، 3 أغسطس 2025 02:49 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب .. نبتة الرماد

بوابة المصريين

في الصحراء الكبرى، هناك نبتة غريبة تظهر بعد عشر سنوات من الجفاف. يسمونها "نبتة الرماد" لأنها تنبت من بقايا حرائق قديمة. علماء البيولوجيا يكتشفون الآن أن بذورها تحتاج حرارة 70 درجة مئوية لتنشط.
كأنما تسير في نفق من زجاج معتم، ترى العالم يتحرك حولك لكنك لا تشعر بلمساته، ينساب منك ماء الروح، حتى تصبح وعاء فارغا. في البداية ربما تشكو لصديق كونك متعبا، تظنها مجرد موجة تعب عابرة. لكن الرمال المتحركة لا تُعلن عن نفسها، إنها تسحبك بهدوء. الأرق يبدأ بالتسلل، كضيف ثقيل لا يعرف الأدب. ثم تأتي "اللامبالاة"، تلك الغريبة التي تطل برأسها من نوافذ القلب المُغلقة. تصبح اجتماعات العمل مثل مشاهدة فيلم صامت، والأصدقاء أشباحا تمر من حولك. ينشأ ذلك الصمت المريب الذي يخترق النفس، فيحول الحماس إلى رتابة، والعطاء إلى عبء، والإنجاز إلى روتين بلا معنى، ذلك الانهيار الصامت الذي يُحدث صدعا في الروح بينما تظل المظاهر الخارجية كما هي بلا تغيير. عملية تدريجية تُذيب الإنسان من الداخل، تحت وطأة تضحيات لا تُرى، وطموحات لا ترحم، وكماليات مستحيلة. إنه الاحتراق النفسي، الي لا يبدأ بانفجار، بل بتقطير بطيء. ذلك الوباء الصامت الذي يلتهم كيان الإنسان قطرة قطرة، قبل أن يدرك أنه أصبح ظلا لما كان عليه.
تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن 28% من العاملين عالميا يعانون أعراض احتراق نفسي حادة، بينما ترتفع النسبة إلى 63% في المهن الإنسانية كالطب والتمريض. في مصر وحدها، كشفت دراسة لجامعة عين شمس (2023) أن 41% من الأطباء الشباب يُعانون من "مرحلة احتراق متقدمة"، حيث يتحول العطاء إلى عبء، والإنسانية إلى روتين ميكانيكي. أما دراسة "غالوب" 2022 فتكشف أن 62% من الموظفين حول العالم يعيشون حالة "انفصال عاطفي" عن أعمالهم. هذه الأرقام ليست إحصاءات باردة، بل شواهد على زلزال نفسي يهز أساسات المجتمعات الحديثة.
في مختبرات علم الأعصاب، تكشف فحوصات ال fMRI عن تشوهات مذهلة، حيث تظهر أدمغة المحترقين نفسيا انخفاضا في نشاط "القشرة أمام الجبهية"، مركز صنع القرار والإبداع، وفرط نشاط في "لوزة الدماغ"، مركز القلق والألم. هذه التغيرات تتقاطع بنسبة 68% مع أنماط نشاط أدمغة مرضى الاكتئاب، وفقا لأبحاث جامعة ستانفورد 2023. الحد الفاصل بينهما أشبه بغشاء شفاف؛ فالاحتراق هو تمرد الجسد على نظام حياة مجحف، بينما الاكتئاب هو تمرد الروح على الحياة نفسها. ففي مسح دماغي أجرته "مايو كلينك" (2021) 72% من مرضى الاحتراق المزمن أظهروا نشاطا مطابقا لاكتئاب خفيف في "القشرة الحزامية الأمامية" (مركز المعاناة الأخلاقية). 45% منهم طوروا اكتئابا سريريا خلال عامين.
لم تكن ظاهرة "الاستقالات الصامتة" التي اجتاحت العالم عام 2022 تمردا على العمل، بل صرخة أجساد منهكة ترفض الاستمرار في التهام نفسها. دراسة "ماكنزي" كشفت أن 43% من الموظفين الذين يمارسون "العمل الصامت" يعانون من أعراض جسدية خطيرة، كاضطراب المناعة، ارتفاع ضغط الدم، وحتى تغيرات جينية في "التيلوميرات"، وهي أطراف الكروموسومات المسؤولة عن الشيخوخة.
لكن الأكثر إثارة في أبحاث جامعة كامبريدج 2023 هو اكتشاف "مفارقة الالتزام"، حيث أن 89% من المحترقين نفسيا كانوا الأكثر حماسا وإبداعا قبل عامين من الانهيار، هذه المفارقة تكشف أن الإهمال لا يقتل الشغف، بل الشغف المحموم بلا حدود.
الدماغ لا يفرق بين ضغوط البقاء على قيد الحياة وضغوط التقارير المهلكة؛ كلاهما يُطلق سيلا من الكورتيزول الذي يتحول مع الوقت إلى سم عصبي. دراسة نُشرت في "لانسيت نيورولوجي" (2022) أثبتت أن التعرض المزمن للكورتيزول يُقلص حجم الحُصين (مركز الذاكرة) بنسبة 6% لدى المحترقين نفسيا، وهي نفس النسبة المسجلة في الاكتئاب المزمن. كذلك وهم الكمال، ذلك السجان الداخلي الذي يهمس دائما "لا يكفي"، في بحث ميداني بجامعة ستانفورد، اعترف 78% من المتفوقين أكاديميا بأن سعيهم للكمال دفعهم إلى نوبات هلع متكررة. هؤلاء هم الأكثر عرضة للسقوط في براثن "الاحتراق" لأنهم، كما يقول عالم النفس "جوردن بيترسون"، يبنون هويتهم على الإنجاز، فإذا توقف الإنجاز، انهارت الذات. كما أن التضحية دون حدود مع الوقت تصير انتحارا بطيئا.
في عيادات علم النفس، لم يعد العلاج يركز على "كيف تستريح"، العلاج لا يكمن في الهروب إلى إجازة، بل في إعادة تعريف نفسك. د. "خالد عمران"، أستاذ الطب النفسي في جامعة القاهرة، يروي قصة مريض جاءه يحمل استقالته قائلا: "أريد أن أهرب إلى جزيرة نائية". نصحه الطبيب بدلا من ذلك أن يبحث عن الجزيرة داخل مكتبه. بدأ الرجل بتخصيص 20 دقيقة يوميا لكتابة قصيدة، بعد شهرين، لم تكن القصائد تحرق الاكتئاب، لكنها أنبتت جسرا فوق الهوة، جسرا يصله بذاته التائهة.
قد يأتي الأمل من أغرب الأماكن. دراسة في "جامعة هارفارد" تتبع 1000 شخص على حافة الاحتراق، وجدوا "طقسا يوميا صغيرا"، كتناول القهوة في الشرفة بمفردهم بجلسة هادئة، أو تلوين صفحة في دفتر، أو رسم لوحة بسيطة، انخفضت احتمالية غوصهم في الاكتئاب بنسبة 68%. ليس لأن ذلك الطقس شفاهم، بل لأنه أعادهم إلى أنفسهم، إلى تلك الغرفة الخاصة داخلهم التي يلتقون فيها بأرواحهم، يمسحون أتعابها ويعيدون شحن طاقتها المستهلكة.
الروح المحترقة مثل غابة بعد حريق، تبدو ميتة، لكن جذورها لا تزال تحفر بحثا عن الحياة. الرماد ليس نهاية؛ ففي أعماق كل روح محترقة، هناك جمرة لا تموت، كل ما تحتاجه هو نسمة صغيرة، ربما كلمة من صديق، أو ربما دموع تذوب فيها الأقنعة، فتكتشف أنك ما زلت هناك، تحت كل هذا الرماد، تنتظر العودة.

مقالات الرأي

آخر الأخبار