هشام بيومي يكتب: سوشيلا كاركي… حين تتجسد العدالة في مقعد الحكم


في لحظات التحولات الكبرى، عندما يشتعل الغضب في الشوارع وتنهار الثقة بين الشعوب وحكّامها، يطلّ التاريخ أحيانًا بوجهٍ مختلف، ويختار من خارج حسابات السياسة رجلًا أو امرأة ليعيد تعريف القيادة. هذا ما حدث في نيبال مؤخرًا، حين صعدت سوشيلا كاركي إلى مقعد رئيس الوزراء المؤقت، لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ بلدٍ يتأرجح بين الأزمات.
كاركي ليست ابنة حزب سياسي ولا وريثة نفوذ عائلي، بل ابنة القانون والعدالة. وُلدت في بيراتناغار عام 1952، درست الحقوق ثم برزت كقاضية صارمة، لتصبح أول امرأة تتولى منصب رئيسة المحكمة العليا في نيبال. في كل محطة، اشتهرت بمواقفها الحازمة ضد الفساد، وبإصرارها على أن ميزان العدالة لا يُباع ولا يُشترى.
وحين فقد الشعب ثقته في الطبقة السياسية التقليدية بعد احتجاجات عارمة أطاحت بالحكومة، وقع الاختيار عليها لتكون الجسر إلى المرحلة الانتقالية. وكأن الرسالة كانت واضحة: لا أحد أقدر على إنقاذ سفينة غارقة من قبطانٍ لم يلوثه وحل السياسة.
تتسلم كاركي مهامها المؤقتة وسط عاصفة من التحديات:
سياسيًا، عليها أن تحفظ التوازن بين الجيش والأحزاب، وأن تدير مرحلة انتقالية حساسة تمهد لانتخابات في مارس 2026.
اقتصاديًا، تواجه أزمة فساد خانقة، مع بطالة متفشية وشباب يفقدون الأمل في المستقبل.
اجتماعيًا، مطالبة بتهدئة الشارع الغاضب، وبتأكيد أن وجودها ليس مجرد ديكور مؤقت، بل رسالة بأن التغيير ممكن.
لكن ربما يكون التحدي الأكبر ليس في الملفات السياسية والاقتصادية، بل في بناء الثقة، وهي العملة النادرة في زمن الأزمات.
ما يجعل قصة سوشيلا كاركي ملهِمة أن صعودها يحمل معاني أوسع من حدود نيبال.
للشباب: هي مثال أن الطريق إلى القيادة ليس بالضرورة مفروشًا بالتحالفات والصفقات، بل بالجدية والالتزام والعمل الصامت.
للنساء: تجربتها شهادة أن "السقف الزجاجي" يمكن كسره، وأن حضور المرأة في أعلى قمة السلطة لم يعد حلمًا بعيدًا.
للعالم: أن الشعوب حين تضيق ذرعًا بالفساد، قادرة على إعادة تعريف قيادتها، ولو عبر حكومة مؤقتة.
في الفلسفة السياسية، يقال إن "القائد الحقيقي يُختبر في اللحظة التي يظن فيها الجميع أن الأمل قد مات". وربما هذا هو ما يجعل اسم سوشيلا كاركي جديرًا بالتوقف عنده: لم تأتِ لتبقى طويلًا، بل لتضيء لحظة تاريخية مظلمة، وتؤكد أن العدالة يمكن أن تكون هي القائد.
> «التعليم أصبح تجارة، لم يعد بإمكان الفقراء إرسال أولادهم للدراسة بسهولة. كان الأمر مختلفًا من قبل؛ حتى من الفقراء يمكن أن يصبحوا أطباء إذا أرادوا، الآن كل شيء أصبح مرتبطًا بالمال.»
- سوشيلا كاركي
في هذا القول، تتجلى روح العدالة الاجتماعية؛ لا تكتفي بمعالجة التشريعات والقوانين، بل تنظر إلى الواقع، إلى أحلام الأطفال الذين تُغلق أمامهم أبواب الفرص.
> «ألفت نظر الحكومة إلى أن من الصعب معرفة من يحصل على المنح أو الامتيازات، لأن التوزيع أصبح غير شفاف.»
- سوشيلا كاركي
هذه المطالبة بالشفافية ليست مزحة؛ بل فعل ثوري بهدوء؛ فحين تعلم من يُمنح الحقّ ومن يُحرم، تبدأ العدالة الحقيقية في التغلغل.
قد تغادر كاركي المنصب بعد شهور قليلة، وقد تتوارى من المشهد كما جاءته، لكن أثرها سيبقى: امرأة كسرت حاجزًا رمزيًا عتيقًا، ومنحت شعبها والعالم درسًا أن القيادة ليست لقبًا سياسيًا، بل موقفًا أخلاقيًا.
تجربة سوشيلا كاركي تذكّرنا بأن التاريخ لا يُصنع دائمًا بالساسة المخضرمين، بل أحيانًا بصوت هادئ ظلّ يردد لسنوات أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه. واليوم، وهي أول رئيسة وزراء مؤقتة في نيبال، تحولت من قاضية على منصات المحاكم إلى قاضية على منصة الحكم.
إنها رسالة لكل شاب وامرأة في عالمنا العربي: لا تستهن بقوة الالتزام والصدق، فقد يفتح لك القدر بابًا في لحظة لم تتوقعها، لتجد نفسك في موقع يصنع التاريخ.