هشام بيومي يكتب: ما بعد اتفاق غزة: نحو سلامٍ مستدام ودور العالم في تثبيت الهدنة


لم يكن اتفاق شرم الشيخ الذي أنهى جولة الحرب الأخيرة في غزة نهايةَ صراعٍ دموي فحسب، بل كان بداية مرحلة أكثر صعوبة وحساسية — مرحلة تثبيت الهدنة، وامتحان الإرادة الدولية للحفاظ على ما تحقق من مكاسب سياسية وإنسانية.
فالحروب غالبًا ما تنتهي بتوقيع الأوراق، لكن السلام الحقيقي لا يولد إلا من التزامٍ حقيقي ومسؤولية جماعية.
ومن هنا تبدأ قصة “ما بعد الاتفاق”؛ حين تتداخل الأيدي، وتتقاطع المصالح، وتُختبر النوايا.
أولاً: ملامح ما بعد الاتفاق
ما إن وُقّع الاتفاق في شرم الشيخ حتى بدأت بوادر الهدوء تعود تدريجيًا إلى قطاع غزة.
توقفت أصوات القصف، وبدأت الشاحنات المصرية المحمّلة بالمساعدات تعبر معبر رفح، وعاد الأطفال إلى مدارسهم ولو على خوفٍ، وبدأت العائلات تُرمّم منازلها المهدمة على أمل أن يكون ما جرى هو الأخير.
لكن الواقع الميداني لا يزال هشًّا.
فالألغام المنتشرة، ودمار البنية التحتية، وانقطاع الخدمات الأساسية — كلها عوامل تجعل من الحياة اليومية تحديًا مستمرًا.
كما أن انعدام الثقة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية يجعل أي حادث بسيط قابلًا لتفجير الأوضاع من جديد.
لذلك، فإنّ مرحلة ما بعد الاتفاق ليست “هدوءًا مطلقًا”، بل هدنة تحتاج إلى رعاية دائمة ومتابعة دقيقة.
ثانياً: الدور المصري في تثبيت السلام
بعد أن نجحت مصر في جمع الأطراف المتنازعة على طاولة واحدة، لم تغادر المشهد.
بل على العكس، بدأت مرحلة أكثر دقة وحساسية تمثلت في مراقبة التنفيذ الميداني لبنود الاتفاق وضمان استمراريته.
1. غرفة العمليات المصرية–الأممية:
أنشأت القاهرة بالتعاون مع الأمم المتحدة غرفة عمليات مشتركة تعمل على مدار الساعة لتلقي التقارير من داخل غزة ومتابعة أي خروقات.
هذه الآلية جعلت مصر الضامن الفعلي للهدنة، وأعطت الاتفاق وزناً سياسيًا على المستوى الدولي.
2. ملف إعادة الإعمار:
أدركت القاهرة أن تثبيت السلام لا يتحقق بالاتفاقات فقط، بل بتحسين حياة الناس.
لذلك بادرت بالدعوة إلى مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة، وبدأت تنسيق الدعم من الدول المانحة والمؤسسات العربية، كما ساهمت شركات مصرية في فتح الطرق ورفع الأنقاض داخل القطاع.
3. التحرك الدبلوماسي الهادئ:
استخدمت مصر علاقاتها المتوازنة مع واشنطن وتل أبيب والفصائل الفلسطينية لاحتواء أي توترات مبكرة، فكلّما ظهر خلاف أو توتر ميداني، تدخلت القاهرة بالحكمة ذاتها التي أنجحت المفاوضات الأولى.
ثالثاً: الدور الدولي في إنجاح الاتفاق
سلام غزة ليس مسؤولية مصر وحدها، بل امتحان للمجتمع الدولي بأسره.
وقد بدأت القوى الكبرى والإقليمية بالتحرك كلٌّ وفق حساباته ومصالحه، لكن الاتجاه العام يشي برغبة حقيقية في تثبيت التهدئة.
1. الولايات المتحدة:
قدمت واشنطن دعمًا سياسيًا واضحًا للاتفاق، وضغطت على الحكومة الإسرائيلية للالتزام بالبنود الأمنية، مقابل حصول إسرائيل على ضمانات أمريكية بحماية أمنها الداخلي.
كما أعلنت نيتها المساهمة في مشاريع البنية التحتية بغزة ضمن خطة “الاستقرار الإقليمي”.
2. الاتحاد الأوروبي:
سارع إلى تخصيص حزمة مساعدات مالية لإعادة الإعمار، وأبدى استعداده للمشاركة في بعثة مراقبة دولية للإشراف على المعابر وضمان تدفق المساعدات.
الموقف الأوروبي، رغم حذره، يعكس قناعة بأن استقرار غزة يعني استقرار شرق المتوسط بأكمله.
3. الدور العربي والإقليمي:
ساهمت قطر والسعودية والإمارات بدعم مالي وإنساني كبير، وأبدت الأردن استعدادها للمشاركة في الإشراف على المساعدات الطبية واللوجستية.
هذه المواقف العربية، التي جرى تنسيقها عبر القاهرة، أكدت أن القضية الفلسطينية لا تزال حية في الضمير العربي رغم كل الانقسامات.
4. الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية:
بدأت الوكالات الأممية بإرسال فرق تقييم ومساعدات عاجلة، وجرى الاتفاق على آلية أممية لمراقبة التنفيذ، بحيث تكون الأمم المتحدة شريكًا رسميًا في إدارة المرحلة الانتقالية بين الحرب والسلام.
رابعاً: التحديات التي تهدد استدامة الهدنة
رغم الأجواء الإيجابية، هناك جملة من التحديات التي تجعل الحفاظ على الاتفاق مهمة دقيقة:
الانقسام الفلسطيني الداخلي: استمرار التباين بين الفصائل قد يُضعف الموقف الموحد اللازم لتنفيذ بنود الاتفاق.
الاستفزازات الميدانية: أي عملية عسكرية أو هجوم متبادل قد يعيد الأمور إلى نقطة الصفر.
تجاذبات القوى الدولية: مع تغير المزاج السياسي في واشنطن وتل أبيب أو تبدّل أولويات العالم، قد تتراجع الجهود الداعمة للاتفاق.
البطء في إعادة الإعمار: كل يوم تأخير في تحسين الأوضاع الإنسانية يُغذي الغضب الشعبي ويقوّض الثقة بالاتفاق.
هذه التحديات تجعل من استمرارية الدور المصري ضرورة لا غنى عنها، باعتبارها الدولة الوحيدة القادرة على التواصل مع جميع الأطراف دون استثناء.
خامساً: نحو سلامٍ مستدام
من رحم المعاناة تولد الفرص، ومن بين ركام الحرب يمكن أن تُبنى الجسور.
إنّ شرم الشيخ لم تكن مجرد محطة سياسية، بل بداية لمرحلة جديدة عنوانها “السلام الممكن”.
لكن هذا السلام لن يكتمل إلا إذا دعمت دول العالم — من الشرق والغرب — الجهود المصرية والعربية، وساهمت بجدية في تحويل الهدنة إلى مشروع استقرار طويل الأمد.
اليوم، يقف الشرق الأوسط على مفترق طرق:
إما أن يختار منطق القوة، فيعود إلى الدمار ذاته،
أو أن ينتصر لعقلانية السلام، ويمضي في طريق التنمية والشراكة الإنسانية.
لقد أثبتت التجربة أن مصر ليست مجرد وسيط سياسي، بل هي حارس استقرارٍ إقليمي يوازن بين التعقيدات ويفتح نوافذ الأمل.
أما العالم، فبات يدرك أن أي تقاعس عن دعم هذا المسار سيعيد المنطقة إلى دوامة النار.
إنّ اتفاق غزة هو فرصة تاريخية لاختبار ضمير الإنسانية،
فإما أن يُكتب له النجاح فتُفتح صفحة جديدة في تاريخ المنطقة،
أو تُهدر الفرصة مرة أخرى… ويعود العالم إلى سؤالٍ قديمٍ لم يجد له جوابًا بعد:
هل نستطيع أن نصنع سلامًا يدوم؟