الإثنين، 17 نوفمبر 2025 07:16 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

هشام بيومي يكتب: رمزية الحلم وسلطة الوهم

بوابة المصريين

في تاريخ الأدب العالمي، لم تكن "قبعة الساحر" مجرد إكسسوار سحري أو أداة تُخرج منها الأرانب والحمام، بل كانت رمزًا مركّبًا، يحمل في طياته أسئلة الإنسان الكبرى عن الخلق، والوهم، والقدرة، والحدّ الفاصل بين الواقع والخيال. إنّها أكثر من قبعة… إنّها فكرة، أو بالأحرى مرآة تُظهر ما يُخفيه العقل البشري من توقٍ إلى المستحيل.

منذ أن وقف الساحر الأول على خشبة المسرح ليُدهش الجمهور بإخراج زهرة من العدم، أصبح الإنسان يرى في القبعة استعارة عن "القوة الخالقة". في الأدب، نجد أن قبعة الساحر تمثل دائمًا العقل الخلاق، ذاك الذي يستطيع أن يبتكر واقعًا جديدًا من رحم العدم، كما في أعمال لويس كارول حين جعل من قبعة "صانع القبعات المجنون" في أليس في بلاد العجائب رمزًا للعبث الخلاق، وللذهن الذي لا يخضع لقوانين المنطق.

إنّ القبعة هنا ليست مجرد غطاء للرأس، بل هي "غطاء للعقل" نفسه، يرمز إلى منطقة الظلال بين الحلم والواقع، بين ما نراه وما نتخيله.

في عالم الساحر، كما في الأدب، تكمن المتعة في الوهم؛ في أن نرى المستحيل يحدث أمام أعيننا ونحن نعلم في أعماقنا أنه خدعة. قبعة الساحر تذكّرنا دومًا بأن الجمال قد يكون زائفًا، وأن الحقيقة قد تتخفى في ثوب الخداع.

في هذا السياق، يمكن قراءة "قبعة الساحر" بوصفها تمثيلًا للسلطة — سلطة من يمتلك الوهم على من يصدّقه. تمامًا كما يمتلك الكاتب سلطة على قارئه، يصنع له العوالم ويجعله يبكي ويضحك ويؤمن، رغم علمه أن كل شيء محض خيال. وهنا يلتقي الساحر والفيلسوف والكاتب في نقطة واحدة: جميعهم "صُنّاع أوهام"، ولكن أوهامهم تفتح العيون بدل أن تُغلقها.

في قصص الأطفال، من "هاري بوتر" إلى "نارنيا"، تظهر قبعة الساحر بوصفها جسرًا بين عالمين: عالم البراءة وعالم الغموض. إنها حلم الطفل بأن يكون قادرًا على إصلاح العالم بمجرد إيماءة من العصا. لكن حين يكبر، يكتشف أن القبعة لم تكن سوى استعارة لخياله نفسه — وأن السحر الحقيقي يسكن داخله، لا في القبعة.

في هذا المعنى، القبعة هي رمز "الدهشة الأولى"، تلك التي يفقدها الإنسان حين يستبدل الحلم بالمنطق، والإيمان بالمعرفة.

قبعة الساحر في جوهرها تُثير سؤالًا فلسفيًا: من أين يأتي الخلق؟ أهو من قوة خارقة، أم من عمق الوعي؟ حين يضع الساحر قبعته على رأسه، كأنه يعلن امتلاكه مفاتيح المجهول. ولكن، أليس الكاتب كذلك حين يضع قلمه على الورق؟ أليست الكتابة ضربًا من السحر الأبيض؟

الفيلسوف أيضًا يرتدي "قبعته" الرمزية، حين يتأمل العالم بعينٍ تبحث عمّا وراء الظواهر. كلاهما يسحب من القبعة أفكارًا، لا أرانب؛ ومفاهيم، لا عصافير.

يمكن أن نرى في "قبعة الساحر" استعارة عن الإنسان ذاته، ذاك الكائن القادر على الإبداع والدمار في آن واحد، الذي يُدهشك بما يخرجه من أعماقه: حبّ، حرب، قصيدة، آلة، أو حتى وهمٌ جديد.

القبعة هنا ليست سوى "رأس العالم"، والمسرح ليس إلا الحياة، والساحر هو كل من يحاول أن يفهم دوره في هذا العرض اللامنتهي.

وحين قال الطفل للساحر: "أخرج أبي من القبعة"، بكى الساحر.

لأن تلك اللحظة اختصرت مأساة الإنسان كلها: حدود السحر أمام الفقد، وحدود الوهم أمام الحقيقة. لا قبعة في العالم تستطيع أن تُعيد من رحل، ولا وهم قادر على ترميم ما انكسر في القلب.

لكن ربما، في دمعة الساحر، يولد سحر آخر — سحر التعاطف، وسحر الوعي بأن الإنسان لا يُخلق ليُدهش الآخرين فقط، بل ليفهم عمق عجزه أمام الوجود.

وهكذا تبقى قبعة الساحر في الأدب العالمي رمزًا مزدوجًا: مرّة للخلق، ومرّة للوهم، ومرّة ثالثة للإنسان نفسه — ذاك الساحر الحزين، الذي لا يتوقف عن محاولته المستحيلة لصنع المعجزة، حتى وهو يعرف أن القبعة فارغة.

٠

مقالات الرأي

آخر الأخبار