الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025 04:47 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب النائب المستشار/ حسين أبو العطا

مقالات الرأي

د. امينة زانون تكتب: كيف سرقت الهواتف المحمولة الدفء من علاقاتنا؟

بوابة المصريين


لم يعد الهاتف مجرد وسيلة اتصال، بل تحوّل تدريجيًا إلى “مساحة إقامة يومية” يعيش فيها الإنسان أكثر مما يعيش مع من حوله. ومع الوقت تغيّر شكل العلاقة بين الناس: أصبح القرب الجسدي موجودًا، لكن القرب النفسي مفقود. ترى العائلة في غرفة واحدة، لكن كل شخص حاضر في عالم مختلف خلف شاشة صغيرة.
الهواتف لم تسرق الوقت فقط، بل سرقت الانتباه، والانتباه جزء من الحب.
حين نتحدث لشخص ينظر إلى هاتفه، نشعر بأن كلماتنا "لا تصل".
وحين ننتظر تفاعلًا إنسانيًا فنجد بدله "ردًا سريعًا"، نشعر بأن العلاقة أصبحت ميكانيكية.
ومع تكرار هذا المشهد، يبدأ الدفء في التلاشي:
لم تعد الحوارات تُبنى على الإصغاء، بل على المقاطعة والشرود.
لم تعد الزيارات كما في السابق، بل أصبحت تجمّعات صامتة، كلٌ منشغل بصفحته الخاصة.
حتى المشاعر نفسها باتت تُختصر في رموز جاهزة: قلب أحمر بدل حضن، وردة رقمية بدل سؤال حقيقي عن الحال.
ومع الوقت لم نعد نفتقد الأشخاص، بل نفتقد "الشعور" بهم.
لم نعد نبحث عن الحضور الجسدي، بل عن الحضور الروحي ، وهذا ما لا تستطيع التكنولوجيا منحه.
فقدان الدفء الإنساني في زمن العلاقات السريعة
مع تسارع إيقاع الحياة، وتحوّل التواصل الإنساني إلى رسائل مقتضبة وإشعارات عابرة، بدأ كثيرون يشعرون بأن شيئًا جوهريًا يتسرّب من علاقاتهم: الدفء. لم يعد الحضور القريب كما كان، ولم تعد الكلمات تُقال كما تُشعر، وأصبح التفاعل مع من نحب أقرب إلى أداء مهمة منه إلى مشاركة شعور.
هناك مفارقة واضحة نعيشها جميعًا:
نمتلك وسائل تواصل أكثر من أي زمن مضى، لكننا نشعر بالوحدة أكثر من أي وقت مضى.
نتبادل الكلمات سريعًا، بينما تتأخر المشاعر، أو تختفي تمامًا خلف الشاشات.
هذا الفقد لا يحدث فجأة، بل يحدث تدريجيًا حين يعتاد الإنسان أن يُظهر وجوده عبر “متابعة” أو “إعجاب”، بدلًا من نظرة صادقة أو حديث دافئ. وحين تحل الرموز التعبيرية محل التعاطف الحقيقي.
الآثار النفسية لغياب الدفء واحتلال الهاتف لمساحة العلاقات
افتقاد المشاعر الحقيقية لا يترك أثره على السلوك فقط، بل يمتد بعمق إلى النفس.
فأصبحنا نشعر بأن الناس أصبحت “باهتة” أو “باردة”.
فهناك من هم حولنا بأجسادهم… لكن عقولهم معلّقة في شاشة، إشعار، رسالة، فيديو…فلا وقت للإنصات بعمق، ولا لمساحة للتعاطف.
لقد قلّلت الهواتف مساحة التلاقي الحقيقي، وجعلت ردّات الفعل سريعة وسطحيّة.
فقتلت لحظات الصمت التي كانت تعمّق الشعور.
خلقت “إدمان المقارنة” فأصبح الإنسان مشغولًا بأحوال غيره أكثر من أحواله هو.
الأمر المؤلم أن الكلام أو اللمسة أو النظرة التي كانت تكفي لطمأنة إنسان، أصبحت تُزاحَم بهاتف يسرق الثانية والثالثة والرابعة… حتى تضيع اللحظة كلها.
اليوم كثير من الناس لا يتعمّدون البرود، ولكن أدمغتهم أصبحت تعمل على “أوضاع سريعة”:
Reel → رد → إشعار → تبديل → إلهاء → ضحك → انتقال…
فصارت أدمغتهم غير قادرة على الدخول في مشاعر بطيئة وعميقة كالإنصات والاحتواء.
اصبحت المشكلة عصبية / نفسية: فقد تغير نمط اشتغال المخ نفسه
فقدنا الروح وفقدان الروح جعل الانسان يشبه الآلة حركاته ميكانيكية، ردوده ميكانيكية، أيضا حضوره ميكانيكي.
وأحيانًا يكون الشعور الأقسى ليس أنهم “لا يشعرون بك”
بل أنهم لا يشعرون أصلًا بأنفسهم، فكيف سيشعرون بالآخر؟
الإنسان إذا لم يعد يعيش نفسه من الداخل… يصبح قشرة تمشي على قدمين.
اصبح الناس يتجهون اتجاهًا غريبا، وكأننا أصبحنا مجتمعً منخفض الحرارة الشعورية، وهذا ما يثير القلق.
الوجع هنا ليس “مما يحدث اليوم” فقط… بل من ما سيصبح عليه الإنسان غدًا.
وهذا يقترب مما يسميه علم النفس الحديث:

"The dehumanization of daily life"
أي: تحوّل الحياة اليومية إلى نمط لا يشبه الإنسان بل يشبه التشغيل الآلي.
عندما يُمحى العمق… يفقد الإنسان كل ما يجعله إنسانًا مثل:
الإحساس
التأمل
الإنصات
الرعاية
الحضور
الصمت الدافئ
المشاركة الوجدانية
ويستبدلها ب ) لايك – رد – ايموجي – “تمام” – “ماشي )
أصبحنا نشعر بالوحدة والكثير حولنا فالوحدة حين يكون الإنسان بمفرده يمكن تحملها…
لكن الوحدة “وهم حولك” تشبه العطش وسط بحرٍ مالح:
ماء كثير… ولا شربة تُروي.
الفرق بين الإنسان والآلة هو الروح…
وما نراه اليوم هو أن الوجوه بقيت، لكن الأرواح تضاءلت، فتبدو الحياة وكأنها “تمثيل إنساني بلا إنسان”.
وهذا مستقبل مُخيف بحق لأننا لو فقدنا العمق الشعوري، سنفقد معنى العلاقات، ثم معنى القرب، ثم معنى المشاركة، حتى يصبح كل إنسان جزيرة معزولة يحمل هاتفًا بدلًا من قلب.
اصبحنا نشعر بالخوف ان تفقد ارواحنا النسخة القديمة و تتحول إلى نسخة سريعة/سطحية، خالية من المشاعر .
المشكلة الأعمق برأيي؟
أن الناس اليوم لا تتدرّب على الشعور أصلًا.
الهاتف يعطي “منبهات” سريعة — ضحك سريع، تعاطف سريع، غضب سريع… كلها مشاعر لحظية لا تحتاج مجهودًا، لذلك أصبحوا غير قادرين على بذل مجهود شعوري حقيقي مع من حولهم.
وكأن الهاتف يسحب الروح إلى شاشة، ويترك الجسد فقط معك.

فحين يصبح الإنسان محاطًا بالناس لكنه لا يشعر بأحد، يتولد داخله فراغ عاطفي يصعب تفسيره. أبرز هذه الآثار:

1. الشعور بالوحدة رغم عدم العزلة
لم يعد الشعور بالوحدة مرتبطًا بالبقاء وحيدًا في المكان، بل بعدم وجود من يصغي أو يتفاعل بصدق. فيتحول الصمت الداخلي إلى ألم مكتوم.

2. تراجع الإحساس بالقيمة لدى الفرد حين يتحدث الشخص ولا يجد اهتمامًا أو تواصلًا بصريًا، يشعر بأن وجوده غير مهم، وكأن كلماته لا تستحق الإصغاء.
3. الفتور العاطفي داخل العلاقات
حتى العلاقات القوية تبدأ تهتز حين يقل الاتصال الشعوري. يصبح التواصل سطحيًا، وكأن الطرفين يؤديان واجبًا لا مشاركة وجدانية.
4. التشتت وفقر الانتباه العاطفي
لأن العقل مشغول دائمًا بالشاشة، يفقد الإنسان قدرته على الحضور النفسي الكامل، فتضعف قدرته على الاحتواء والتعاطف.
5. الإرهاق النفسي غير المُبرر
كثرة التفاعل الافتراضي تخلق ضجيجًا صامتًا داخل الذهن، يرهق النفس دون أن يعرف الشخص سبب هذا التعب، لأنه لا يجد التفريغ العاطفي الطبيعي في الكلام الواقعي.
6. تآكل الحميمية داخل الأسرة
بغياب الحوارات الدافئة، تصبح البيوت مجرد "أماكن إقامة" لا "أماكن شعور"، وتكبر المسافات الخفية بين أفراد الأسرة حتى وإن كانوا قريبين جسديًا.
لم يعد الخطر في امتلاك الهواتف، بل في أن نسمح لها بأن تصبح أهم من الإنسان الذي يقف أمامنا. فالمشاعر لا تموت فجأة، هي تنسحب بهدوء حين لا تجد من يراها أو يحتضنها أو يمنحها وقتًا. وما ينقصنا اليوم ليس عددًا أكبر من وسائل الاتصال، بل مساحة أصغر من الانصراف، ومساحة أعمق من الحضور.
إن العودة إلى الدفء الإنساني تبدأ من لحظة قرار صغيرة: أن نرفع رؤوسنا عن الشاشة عندما يخاطبنا من نحب، أن نصغي قبل أن نجيب، وأن نُشعر الآخرين بأن وجودهم أصدق من أي إشعار، وأهم من أي رسالة.
فالقلوب لا تُسعدها التقنية، ولكن يسعدها اللقاء الحقيقي، النظرة الصادقة، والاهتمام الذي يُمنح بوعي لا بعادة.
وفي النهاية، سيبقى أقوى اتصال في الحياة، هو ذلك الذي لا يحتاج إلى جهاز كي يصلنا بالآخر… بل يحتاج فقط إلى إنسان حاضر بقلبه وبروحه قبل جسده

مقالات الرأي

آخر الأخبار