هشام بيومي يكتب: بطل في الظل


في زمنٍ تزداد فيه التحديات، وتتعاظم فيه الحاجة إلى القدوة، انه واحد من النماذج اللامعة في سماء النجاح والريادة. رجلٌ لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، لكنه آمن بقوة الإرادة والعلم، وشق طريقه من بين الصخور نحو قمة من قِمم الإنجاز والتميز.
وُلد الدكتور محمود يوسف سعادة في بيئة بسيطة، لكنه حمل في داخله حلمًا أكبر من الظروف، وأعمق من العقبات. منذ شبابه المبكر، كان شغوفًا بالمعرفة، ويدرك أن التغيير لا يأتي من الأمنيات، بل من المثابرة والعمل. التحق بالجامعة وواصل دراسته العليا حتى نال درجة الدكتوراه، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا: أن يكون له أثرٌ حقيقي في وطنه ومجتمعه.
لم يكن طريقه مفروشًا بالورود، بل كان مملوءًا بالتحديات، لكنه اختار أن يُحوّل كل عقبة إلى فرصة، وكل سقوط إلى بداية جديدة. عمل في ميادين التعليم والبحث والإدارة، فجمع بين النظري والتطبيقي، وبين الفكر والممارسة. عُرف بسعة أفقه، وعمق تحليله، وقدرته على الجمع بين الانضباط الأكاديمي وروح المبادرة. كان يؤمن بأن الشهادة ليست نهاية الطريق، بل بدايته.
في زمنٍ كانت فيه مصر تستعد لعبور المصير نحو الكرامة، لم تكن المعركة فقط على الجبهة، بل كانت هناك معركة أعظم تُخاض في صمت… داخل المعامل، بين أنابيب الاختبار وزجاجات الكيماويات، في سباق مع الزمن، وبين أيدٍ لم تحمل السلاح، بل حملت الوطن في قلبها، ووقوده في عقولها.
قبل حرب أكتوبر 1973، كانت مصر تعاني من أزمة خانقة. التقارير التي وصلت إلى اللواء محمد علي فهمي، قائد قوات الدفاع الجوي، كانت تنذر بكارثة: وقود الصواريخ انتهت صلاحيته أو شارف على الانتهاء، والإمدادات السوفيتية التي نعتمد عليها كانت متوقفة تمامًا. دون هذا الوقود، كان حائط الصواريخ المصري سيقف عاجزًا أمام الطيران الإسرائيلي، وبالتالي فإن خطة العبور كلها كانت مهددة بالفشل.
توجه اللواء فهمي إلى المعامل العسكرية، فخاب أمله. ثم توجّه، في سرية تامة، إلى العلماء المدنيين المصريين، وكان من بين هؤلاء بطلٌ في الظل، العالم الجليل الدكتور محمود يوسف سعادة.
لم يتردد الدكتور محمود، بل انكبّ على المشكلة بكل ما أوتي من علم وإخلاص. في أقل من شهر واحد فقط، تمكن من إنجاز ما عجزت عنه دول، حيث نجح في استخلاص 240 لترًا من وقود الصواريخ الصالح للاستخدام من كميات تالفة عديمة الجدوى. لم يكن هذا مجرد تحضير كيميائي، بل كان فكًا لشفرة علمية معقدة، وتفكيكًا دقيقًا لمكونات الوقود إلى عواملها الأساسية وإعادة تركيبها بنسب دقيقة.
تم اختبار الوقود الجديد، ونجحت التجربة.
ثم بدأت المرحلة التالية. تعاونت المخابرات العامة في استقدام زجاجة من وقود مشابه من دولة أخرى، وتم استيراد المواد الكيميائية الخام. وهنا، تحول المركز القومي للبحوث إلى خلية نحل تعمل 18 ساعة يوميًا بالتعاون مع القوات المسلحة. وكانت النتيجة مذهلة: إنتاج 45 طنًا من وقود الصواريخ المصري الخالص.
لقد وقف العالم وقتها منبهرًا. الخبراء السوفييت الموجودون في مصر ذُهلوا عندما علموا أن المصريين قد أنجزوا هذا الإنجاز الجبار دون أي استشارة أو معونة خارجية. لقد كانت تلك لحظة فخر علمي ووطني لا تُنسى… ووراءها اسم قد لا يعرفه الإعلام كما يعرف أسماء المشاهير، لكنه حُفر في تاريخ الأمة: الدكتور محمود يوسف سعادة.
هذا العالم الجليل لم يكتفِ بإنقاذ موقف عسكري خطير، بل واصل عطاءه العلمي بعد الحرب، فتقلد مناصب رفيعة منها:
أستاذ بقسم التجارب نصف الصناعية بـ المركز القومي للبحوث
نائب رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا
مدير مكتب براءات الاختراع في التسعينيات
حصل على جائزة الدولة التشجيعية ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى
ترك الدكتور يوسف سعادة بصمة واضحة في كل منصب تقلّده، سواء في المجال التربوي، أو في العمل العام، أو في المشاريع الفكرية والتنموية. سعى دائمًا إلى تعزيز قيم الإبداع والمسؤولية في الأجيال الجديدة، وكان صوتًا داعمًا لكل شاب طموح يحلم بأن يكون له مكان في مسيرة الوطن.
النجاح ليس حكرًا على أحد، لكنه حليف من يستعد له، ويثابر من أجله. والدكتور يوسف سعادة هو الدليل الحيّ على أن من آمن بنفسه، صنع المستحيل.