هشام بيومي يكتب: اتفاق غزة بين التحديات والدور المصري في تجاوز الصعاب


في لحظة فارقة من تاريخ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، احتضنت مدينة شرم الشيخ جولة مفاوضات شاقة امتدت لساعات طويلة، خرج منها العالم باتفاق أولي يضع الأساس لوقف إطلاق النار في غزة، بعد شهور من الدمار والمعاناة الإنسانية. غير أن هذا الاتفاق لم يكن ثمرة ظروف مواتية أو تفاهمات سهلة، بل وُلد وسط تحديات معقدة وضغوط سياسية وأمنية هائلة، جعلت من الدور المصري محوراً أساسياً في تحقيق التوازن وبناء الثقة بين الأطراف.
أولاً: تحديات الاتفاق
واجه اتفاق غزة سلسلة من العقبات التي كادت تعصف به أكثر من مرة، من أبرزها:
1. انعدام الثقة بين الأطراف المتفاوضة:
كان كل طرف ينظر إلى الآخر بعين الشك، فإسرائيل طالبت بضمانات صارمة لعدم استئناف إطلاق الصواريخ، فيما أصرت حركة حماس على ضمانات لوقف العدوان ورفع الحصار وإعادة الإعمار. هذا التناقض في الرؤى جعل مهمة الوسطاء محفوفة بالتوتر.
2. الضغوط الداخلية والخارجية:
المفاوضون الإسرائيليون واجهوا ضغوطاً من اليمين المتطرف الرافض لأي تنازل، في حين تعرضت حماس لضغوط من فصائل أخرى داخل القطاع ترى أن أي اتفاق دون انسحاب شامل سيُعد انتقاصاً من "المقاومة". كما تشاورت بعض الأطراف الدولية مع القاهرة لتسريع التوصل إلى اتفاق، ما جعل إدارة الوقت أحد أكبر التحديات.
3. البعد الإنساني والملف الأمني المعقد:
قضايا مثل تبادل الأسرى، وإدخال المساعدات، وترتيبات وقف النار، كلها ملفات شائكة تتقاطع فيها السياسة بالإنسانية. كان التوفيق بين متطلبات الأمن الإسرائيلي واحتياجات السكان في غزة مهمة بالغة الحساسية.
4. تباين الرعاة الدوليين وتضارب المصالح:
فبينما دعمت واشنطن مقاربة تضمن أمن إسرائيل أولاً، سعت بعض الدول الأوروبية إلى مسار أكثر توازناً، في حين تمسكت أطراف عربية بضرورة حل جذري يضمن حقوق الفلسطينيين. هذا التباين جعل من مصر اللاعب الأقدر على صياغة أرضية وسط.
ثانياً: الدور المصري المحوري
منذ بداية الأزمة، لعبت مصر دوراً حاسماً في احتواء النزاع، مستندة إلى علاقاتها المتوازنة مع جميع الأطراف، وإلى ثقلها الإقليمي والتاريخي في إدارة ملفات الصراع العربي–الإسرائيلي.
1. الوساطة المتوازنة:
حرصت القاهرة على أن تكون وسيطاً نزيهاً، فاستمعت لمطالب الطرفين، وصاغت مقترحات تحقق الحد الأدنى من التوافق، معتمدة على خبرتها الطويلة في التفاوض ومتابعة التفاصيل الدقيقة لكل ملف.
2. إدارة المفاوضات في شرم الشيخ:
تحولت المدينة إلى عاصمة للدبلوماسية الهادئة، حيث جمعت القاهرة ممثلين عن الولايات المتحدة، وإسرائيل، وحماس، والسلطة الفلسطينية، ومبعوثين من الأمم المتحدة، في جلسات متتابعة سرية وعلنية.
كثيراً ما كانت الجلسات تتعثر، لكن الصبر المصري أعاد الأطراف إلى الطاولة مراراً حتى تم التوصل إلى صيغة مقبولة.
3. الضمانات الأمنية والإنسانية:
مصر لم تكتفِ بدور الوسيط، بل تولّت مهمة ضمان تنفيذ بنود الاتفاق، من خلال ترتيبات ميدانية في معبر رفح ومتابعة دخول المساعدات، إلى جانب تنسيق مع قوات دولية محتملة لمراقبة وقف إطلاق النار.
4. رؤية القاهرة لما بعد الاتفاق:
لم تتوقف الجهود المصرية عند وقف القتال، بل ركزت على إطلاق مسار سياسي أوسع يهدف إلى تثبيت التهدئة والانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، وفتح الطريق أمام مصالحة فلسطينية داخلية.
ثالثاً: التغلب على الصعوبات
خلال المفاوضات، واجهت الوفود المشاركة لحظات توتر كادت تُفشل كل شيء، لكن الدبلوماسية المصرية نجحت في تجاوزها بفضل ثلاثة عوامل رئيسية:
المرونة والهدوء في إدارة الحوار بعيداً عن الأضواء.
الثقة الدولية في القيادة المصرية وقدرتها على التوفيق بين المصالح المتناقضة.
الدعم العربي المتزايد لموقف مصر كحاضنة للحوار ومفتاح للاستقرار الإقليمي.
اتفاق غزة لم يكن مجرد ورقة تفاهم، بل اختباراً لقدرة الدبلوماسية العربية على استعادة دورها القيادي في حل أزمات المنطقة.
ورغم أن الطريق لا يزال طويلاً لتثبيت السلام العادل، فإن ما تحقق في شرم الشيخ يؤكد أن مصر ما زالت — وستظل — صمام الأمان في أوقات الأزمات، تمتلك أدوات التهدئة، وتملك قبل ذلك الإرادة السياسية لإعادة صوت العقل إلى ساحة الصراع.