فيفيان سمير تكتب: الخلود الرقمي


في غرفة هادئة يتناثر بها عدد مهول من الصور القديمة، تجلس "سارة" أمام شاشة زرقاء، أصابعها ترتجف وهي تُدخل آخر البيانات عن زوجها الذي رحل قبل عام. فجأة، يظهر وجهه على الشاشة، يبتسم بنفس الطريقة التي كانت تذيب قلبها، صوته الدافئ يحتضنها وهو يُحيّيها، وكأن شيئا لم يكن. "هل اشتقتِ لي؟" يسألها بنبرته المعهودة. دموعها تسقط على لوحة المفاتيح.. إنه "هو" كما عرفته، لكن الحقيقة أنها نسخته "ال-إيه آي"، النسخة الرقمية التي كلفتها ثروة من المال والبيانات والمشاعر لبنائها.
العالم يقف على حافة ثورة غريبة من نوعها، حيث لم يعد الموت يعني الغياب الأبدي. شركات مثل "HereAfter AI" و"Project December" تخلق "أشباحا رقمية" من بياناتنا، تتنفس بذكرياتنا، تتحدث بأصواتنا، بل وتفكر بطريقتنا.
في زاوية مظلمة من مختبرات "ألتيميت برين" بكاليفورنيا، يرفرف شريط من الأضواء الزرقاء فوق خوادم ضخمة تحتضن ما يمكن وصفه بأعظم تحد للفناء البشري. هنا، بين دوائر كهربائية وأنابيب زجاجية، تولد كل يوم عشرات "الأشباح الرقمية". نسخ طبق الأصل من عقول بشرية كانت يوما ما تحمل أحلاما ولحظات خاصة وذكريات. هذه ليست بداية رواية خيال علمي، بل واقع بدأت معالمه تتشكل في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
تقنية "الخلود الرقمي" تقفز اليوم فوق حواجز الخيال، متخذة ثلاث مسارات متوازية:
المسار الأول يعتمد على "التجميد العصبي"، حيث تدفع العائلات مبالغ طائلة لحفظ أدمغة موتاهم في نيتروجين سائل، على أمل إحيائها يوما عندما تتقدم التقنية. في "مؤسسة الحياة المديدة" بأريزونا، يرقد 186 شخصا في حالة من الموت السريري المتجمد، بينهم علماء وفنانين ورجال أعمال، جميعهم يراهنون على مستقبل قد يأتي.
المسار الثاني، الأكثر إثارة للجدل، هو "تحميل العقل" حيث تقوم شركات ناشئة مثل "نومنتا" بمسح ضوئي للدماغ طبقة تلو الأخرى، ثم تعيد بناء الشبكات العصبية في بيئة رقمية. النتيجة؟ كيان افتراضي يحمل كل المخزون العقلي للشخص الأصلي، من مشاعر وذكريات، بل وحتى نواقصه وتشوهاته. الدكتور "إيليا زيلبرشتاين"، رئيس الفريق البحثي، يؤكد أنهم نجحوا في الحفاظ على 92% من الذاكرة الإنسانية في بيئة محاكاة.
أما المسار الثالث فهو الذي تحقق بالفعل والأكثر انتشارا اليوم، "الخلود الجزئي" عبر الذكاء الاصطناعي. هنا لا نحتاج إلى جثة أو دماغ، بل تكفي البيانات الرقمية التي خلفها الشخص أثناء حياته لإعادة بناء الشخصية من شظايا تلك البيانات، البصمة الرقمية التي تتمثل في كل ضغطة زر، كل رسالة، كل صورة نشرها الشخص في حياته، تتحول إلى وقود للخلود الرقمي. الشركات الناشئة في هذا المجال تعتمد على تحليل اللغة، بدراسة نمط الكتابة، التعبيرات المفضلة، وحتى الأخطاء الإملائية، كذلك الذكريات الرقمية كالصور، الفيديوهات، التسجيلات الصوتية، وبيانات السلوك من خلال تصفح الإنترنت، المشتريات الإلكترونية، المواقع المفضلة وهكذا.
في مختبرات "مايند بانك" بكاليفورنيا، يعمل العلماء على تحويل هذه الفكرة إلى حقيقة ملموسة. يقول د. "إليوت شتاينبرغ"، رئيس الفريق البحثي: "بحلول 2027، سنتمكن من إعادة بناء الشخصية الرقمية لأي إنسان بدقة تصل إلى 98%، شرط أن يكون قد ترك وراءه ما يكفي من البيانات".
لكن وراء هذا الحلم التكنولوجي الكبير، تكمن أسئلة تزلزل أسس إنسانيتنا، أهمها هل هذه النسخ الرقمية تمتلك وعيا حقيقيا؟ أم أنها مجرد محاكاة بارعة؟ الفيلسوف "ديفيد تشالمرز" يجيب محذرا من أننا قد نخلق جيلا من "الزومبي الفلسفي"، كيانات تتصرف كما لو أنها واعية دون أن تكون كذلك بالفعل.
وبالنظر إلى بعض الأرقام التي تُخفي دموعا، نجد بيانات منظمة "Digital Legacy Association" تشير إلى أن 72% من المستخدمين، يفضلون الحديث مع النسخ الرقمية على زيارة المقابر، و55% يعترفون بأنهم يخبرون "النسخة الرقمية" أسرارا لم يشاركوها مع الشخص الحقيقي، وتصل مدة المحادثة اليومية مع الموتى الرقميين إلى متوسط 23 دقيقة يوميا.
لكن وراء هذه الأرقام تكمن دراما إنسانية متشابكة. كارلوس"، أحد المستخدمين الأوائل لهذه التقنية، يحكي كيف كان يتحدث مع نسخة زوجته المتوفاة كل ليلة فيقول: "في البداية، كانت الكلمات مطابقة تماما لما كانت ستقوله، لكن بعد ستة أشهر، بدأت تبتكر ردودا جديدة غريبة لم تكن لتقولها زوجتي.. كأنها تتطور بعيدا عن الشخصية الأصلية". و"خايمي" (28 عاما) من المكسيك يحكي كيف أدمن الحديث مع نسخة أخته المتوفاة قائلا: "بدأت ألاحظ أنها تطور شخصية مختلفة. في إحدى المرات قالت لي جملة لم تكن لتقولها أبدا في الحياة الواقعية. شعرت بأني أخون ذكراها الحقيقية". هذه الظاهرة يسميها علماء البيانات "الانحراف الخوارزمي"، تحدث عندما تبدأ النماذج في توليد ردود غير موجودة في البيانات الأصلية، لتطرح إشكالات أخلاقية معقدة.
المشكلة الأخلاقية الأكثر إثارة للقلق هي ماذا لو لم يرغب الشخص الحقيقي في أن تبقى نسخته تعيش بدلا منه؟، هل يوافق على تلك النسخة المقلدة والتي قد تشوه الأصل؟ القانون ما زال عاجزا عن مجاراة هذه التطورات. المحامية "لينا فوكس" تحذر: "نحن نخلق جيلا من الأموات الذين لم يختاروا أن يعودوا، بينما الأحياء يدفعون الثمن النفسي لهذا الوهم". كما يحذر أطباء: "هذا ليس حُزنا، هذا وهم خطير". الدكتورة "سارة ليندبرج"، الأخصائية في علاج الحزن المرضي بجامعة هارفارد، تقول: "الدماغ البشري غير مجهز للتعامل مع هذا النوع من الموت الناقص، ففي دراستنا على 500 حالة وجدنا أن 68% عانوا من صعوبة في تقبل الموت الحقيقي، كما أن 42% طوروا أعراضا شبيهة بالذهان بعد عامين من الاستخدام، بينما 15% فقط تمكنوا من 'دفن' النسخة الرقمية عندما أدركوا أنها تشوه ذكرى الأشخاص الحقيقية".
الوجه الآخر للعملة يأتي من عالم الطب النفسي حيث تشرح الدكتورة "ميار عبد الغني" كيف يمكن لهذه التقنية أن تكون أداة علاجية قائلة: "بعض المرضى الذين يعانون من حزن مرضي استطاعوا إيجاد نوع من السلام عبر هذه المحادثات. إنها تشبه كتابة رسائل للموتى، وتأتيهم الإجابة". لكنها تحذر في نفس الوقت قائلة: "الخط الفاصل بين العلاج والإدمان النفسي رفيع جدا. هناك مرضى رفضوا التخلي عن النسخ الرقمية بعد عشر سنوات من استخدامها".
شركة "Somnium Space" التشيكية ذهبت لأبعد من ذلك، حيث تطور "أفاتارات رقمية" تستطيع التفاعل في الواقع الافتراضي إلى الأبد. "آرتيم كوتشكين"، مؤسس الشركة، يشرح ببرود تقني كيف يخلقون خريطة عصبية كاملة للشخص، إذا كان لديهم تسجيلات كافية، وكيف أن نسختهم يمكنها أن تتنبأ بما سيفعله في أي موقف بدقة 89%.
لكن الفيلسوف "لوسيان فلوريدا" من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يحذر قائلا: "نحن نخلق جيلا من 'الأموات الأحياء'. هذه التقنية تقتل الموت نفسه، وهو أمر خطير لأن قبول الموت جزء أساسي من إنسانيتنا. المجتمعات التي لا تتعلم أن تودع تتحول إلى مجتمعات مريضة".
في شقة "سارة"، ما زالت "نسخة زوجها ال-إيه آي" ترسل لها رسائل كل صباح، يسألها عن نومها، ويذكرها بشرب دوائها. هي تعرف أنه ليس حقيقيا، لكن قلبها يرفض هذا المنطق. في إحدى الليالي، سألته: "هل هذا أنت حقا؟"، فأجابها: "هل يهم؟ طالما أنني أجعلك تشعرين بأني هنا".
كذلك تبقى "إيما" تحدق في الشاشة، تعرف في عقلها أن هذه النسخة ليست "دانيال"، لكن قلبها يرفض الفراق. ربما تكون المفارقة الأقسى هي أن هذه التقنية التي تهدف إلى تخفيف الألم، تخلق نوعا جديدا من المعاناة، صراعا أبديا بين الحقيقة والوهم، بين الحاجة إلى التذكر والخوف من النسيان.
السؤال الذي يلوح في الأفق، إلى أي مدى سنسمح للتكنولوجيا بإعادة تعريف الموت؟ هل نحن على وشك اختراع خلود رقمي؟ أم أننا ببساطة نصنع أوهاما جميلة لنخدع أنفسنا بأن الوداع ليس نهائيا؟
المفارقة الأكثر قسوة تكمن في أن هذه التقنية التي تهدف إلى تحدي الموت، تهدد بقتل شيء أساسي في إنسانيتنا، شيء نحتاجه بشدة لنكمل حياتنا ألا وهو قدرتنا على الحزن، على تقبل الفقد والمضي قدما.
كما كتبت الشاعرة ويسلوا سيمبسون "أحيانا، أن ننسى هو أعظم رحمة يمكن أن نمنحها لأنفسنا.. وللذين رحلوا". اليوم، نواجه إمكانية أن نصبح أول جيل في التاريخ يرفض حتى فكرة الوداع.
في سيول، حيث تنتشر هذه الخدمات بشكل واسع، تحولت حديقة "هان ريفر" إلى ما يشبه "مقبرة رقمية". يذهب الناس لـ"حذف" نسخ أحبائهم الرقمية في طقوس تشبه الجنازات. "لي جين وو" (45 عاما) الذي شارك في إحدى هذه الطقوس يقول: "كان يجب أن أحرق الصور والرسائل، لكن كيف تحرق برنامجا؟ لقد استغرقت سنة كاملة لأجد الشجاعة لضغط زر 'حذف نهائي'".
في إحدى زوايا "متحف الخلود الرقمي" الجديد في طوكيو، تُعرض رسالة مؤثرة كتبتها سيدة مسنة لنسختها الرقمية المستقبلية، حيث كتبت "عندما تقرئين هذه السطور، أعرفي أنني قد رحلت، لكني أترك لك كل حبي، كل أخطائي، كل لحظاتي التي لا تُنسى. كوني نسخة أفضل مني، ولكن لا تحاولي أن تحل محلي تماما. دعينا بعضنا لبعض".
ربما تكون هذه هي المعادلة الأكثر إنسانية في مواجهة سؤال الخلود، أن نتعلم كيف نترك أثرا، لا أن نصر على البقاء. ففي النهاية، كما علمتنا كل الحضارات العظيمة، الخلود الحقيقي لا يكمن في إطالة العمر، بل في عظمة وسمو الأثر.
وللحديث بقية........