الخميس، 10 يوليو 2025 07:24 صـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب : يا ابن...

فيفيان سمير تكتب : يا ابن...
فيفيان سمير تكتب : يا ابن...

كائن صغير في عالم من ماء دافئٍ، لا يرى شيئًا لكنه يسمع نبضات قلب هي موسيقاه الأولى. يشتم رائحة فرحٍ أو حزن يتسرب في الماء. ضحكات تهز جدران عالمه؛ يندفع معها "الإندورفين" كطوفان فرحٍ، فيرقص في سعادة. بينما نوبات الألم أو الحزن ترسل موجات كهربائية، فتتجمد حركته ويتحجر، كأنما يحبس أنفاسه ليختفي. هنا، في كهفه الآمن، تُنسج شخصيته خيطًا خيطًا من مشاعر امرأة لم يرها بعد، امرأة تُدعى "أمًّا".

الجنين ليس مجرد خلية، بل سجلا حيا للحظة إنسانية خالصة ومقدسة، تحمل ذروة مشاعر حب، أو حتى كراهية، وربما إكراه، وقد تكون مُتناقضة، لكنه في النهاية قادم من رحم لحظة بشرية بكل ضعفها وقوتها، التي تنسج مشاعر جسد لا ينسى الظروف التي رُسمت فيها خريطته الوجودية، وتظل "بصمته الأولى" التي لا تتكرر ولا تُستبدل ولا تُشترى، ويسميها الأطباء "ذاكرة الرحم".

تمرر يدها على بطنها المُكور، فتشعر بحركة ناعمة ترد عليها، ليست مُجرد ركلة جسدية، بل شفرة خاصة لحديث سري، رسالة تهمس "أنا هنا". في هذا الحرم المقدس، حيث تنسج الأم بأنفاسها ودموعها وضحكاتها أول خريطة لعالم وليدها، قبل أن تلمس شفتاها جبينه، قبل أن تُسمعه أول كلمة، كان قد سمعها بلغة أخرى. الرحم ليس حاضنة بيولوجية فحسب، بل أول معلم يبني الإنسان مع كل انقباضة قلب، ورابطة تختزنها ذاكرة الجنين السائلة قبل أن تُسجل في خلاياه، لتصبح المشاعر جينات. هنا، حيث يختزل العالم في نبضات متزامنة، تولد أقدس لغات الوجود "لغة الأمومة".

هذا اللمس يوقظ في دماغِ الجنين خلايا تُسمى "عصبونات المرآة" وهي نواة التعاطف المستقبلي. بحسب دراسات جامعة كاليفورنيا (2023)، يتشكل 70% من دماغِ الجنين تحت تأثير مشاعر الأم؛ فعندما تضحك، يفرز جسمها هرمون "الإندورفين" الذي يعبر المشيمة، فيُحفز مراكز السعادة في دماغِ الجنين. وعندما تبكي، تزيد هرمونات التوتر في دمها بنسبة 40%، فيُصغر دماغ الجنين المحاور العصبية لـ"نمط البقاء"، كما ذكرت مجلة "ساينس أدفانسز" 2024. تُغير مركبات الكورتيزول الناتجة عن قلقها حلقة جينية تُسمى "EPIGENOME" العلم الحديث يُسمي هذا "التواصل السابق للولادة". وعند الولادة الطبيعية، تحث مسارات الألم عند الأم إفراز الأوكسيتوسينِ بنسبة تزيد 80% عن الولادة القيصرية، مُكونة "بصمة عاطفية" تؤثر في قدرة الطفل على التعلق طوال حياته، كما تقول دورية "نيتشر لعلم الأعصاب" 2024. بل هي بداية التعلق العاطفي الذي يبلغ ذروته عند الولادة الطبيعية، حين يلتقي جلد الأم بجلد الطفل، فينشط هرمون الأوكسيتوسينِ (هرمون الحب والترابط) بنسبة 300% أعلى من الولادة القيصرية، كما تؤكد منظمة الصحة العالمية في تقريرها لعام 2024.

لكن تخيل عزيزي القارئ شرنقة زجاجية تلمع في صمت معمل معقم، داخلها جنين يسبح في سائل صناعي، تراقبه عيون آلات باردة. هذا ليس خيالا علميا، إنه "حمل الروبوتات"، القادم إلينا كتقنية مذهلة. يحدث الحمل الآلي من دون أم أو أب حيث تؤخذ بويضة مخصبة (من متبرعين مجهولين غالبا)، وتوضع في حاضنة صناعية تشبه حوض سمك فاخر. وعبر "المشيمة الإلكترونية" التي تستبدل الحبل السري الطبيعي، توصل الأجنة بأنابيب دقيقة تضخ الغذاء والأكسجين.

روبوتات الحمل هي أنظمة روبوتية متقدمة تحاكي تجربة الحمل البشري. صُممت لثلاثة أهداف رئيسية، التدريب الطبي بمحاكاة عمليات الولادة ومضاعفاتها، البحث العلمي لدراسة تأثيرات الحمل على الجسم، والتجارب الدوائية لاختبار أدوية آمنة للحوامل.

أشهر نموذجٍ هو "أم أندرويد" (طوره علماء يابانيون 2023)، جسمها الصناعي يحاكي التغيرات الفسيولوجية (تمدد الرحم، تغير الهرمونات). مزودة بـ 36 مستشعرا لقياس ضغط الجنين، حرارة السائل الأمنيوسي، ومعدل ضربات القلب. من الحقائق المذهلة أن الدقة البيولوجية في محاكاة تغيرات الحمل الطبيعية تصل إلى 92% بحسب Nature Bioengineering 2024.

ومن النماذجِ المثيرة للجدل "إيريكا" (اليابان 2024) روبوت حمل كامل الخصائص البشرية، قادر على "الاستجابة العاطفية" عبر الذكاء الاصطناعي. لكن هل يمكن اعتباره أما؟

الطفل في رحم الآلة يسبح في سوائل مُصنعة، حيث تختفي الهمسات الهرمونية، والضحكات التي تهز كهفه الصغير، وحتى حزن الأم الذي يضبط موسيقاه النفسية. بلا نغمات قلب بشري يستجيب لها الدماغ، بلا رائحة جسد يحفظها اللاوعي، بلا ارتجاجات ضحك أو دموع؛ فماذا يعني أن يُصنع البشر في خطوط إنتاج؟

روبوتات الحمل، رغم دقتها الميكانيكية المذهلة تظل عاجزة عن نقل "الرسائل الكيميائية" للحب حيث ينتقل 240 مركبا كيميائيا من دم الأم إلى الجنين، تُحفز نمو المادة البيضاء في دماغه وتؤثر مباشرة على تطور الجهاز العصبي للجنين. كذلك تشكيل "الذاكرةِ الحسية"، فالطفل الذي يكبر في رحم آلي يفتقد ترجمة دفء اللمسة، ورنين الضحكة، وحتى رائحة جسد أمه التي تختزنها العقدة اللوزية في الدماغِ. كذلك اللغة الأولى عبر نبرة الصوت الدافئة تنمي مراكز اللغة في دماغِ الجنين، بينما الأصوات الآلية تخلق نشاطا دماغيا فقيرا، كما سجلت أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي. كذلك لا يمكن محاكاة التغيرات الميكروثيقة التي تحدث كل 0.3 ثانية في رحم الأم؛ من خلال تغير سرعة الدم، وتموجِ الهرمونات، والإشارات الكهربائية بين الخلايا العصبية التي تنقل "البصمة العاطفية" للطفل في الرحم الطبيعي. لتتجلى الكارثة في أطفال بلا ذاكرة عاطفية، أطفال بـ "نفس مجهولة الهوية".

في تجربة صادمة أُجريت على 200 قرد في مختبرات هارفارد (2025)، كشفت أن الأطفال الذين نشأوا في أرحام صناعية أظهروا نقصا في معدل الذكاء العاطفي بنسبة 35%، وعدوانية غير مبررة ضد أقرانهم. ومن خلال تحليل جيني، ظهر خلل في جين "OXTR" المسؤول عن تقبل الأوكسيتوسينِ (تقرير الجمعية الأمريكية لعلم الوراثة 2025). كذلك تجربة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (2025)، حيث وُضع 100 جنينِ غنم في أرحام روبوتية متطورة، لنكتشف بعد الولادة أن 68% من صغار الأغنام أظهروا سلوكا عدوانيا غير مبرر، و42% فشلوا في التعلق بأمهاتهم البيولوجيات، وافتقدوا حاسة التعاطف مع صغار القطيعِ. كما أن تحليل أنسجة أدمغتها كشف نقصا في المادة الرمادية بنسبةِ 15% في مناطقِ الانفعال والتعاطف (مجلة "سِل" العلميةُ 2025). التفسير العلمي لذلك هو غياب "التناغم البيولوجي" بين الأم والجنين الذي يعطل تشكيل "الخلايا المرآتية" المسؤولة عن التعاطف.

لكن ماذا لو انتشرت هذه التكنولوجيا خارج الإطار الطبي الضروري؟ ماذا لو تم تفكيك قدسية الأمومة وتحويلها إلى "خدمة تأجير أرحام صناعية"؟ قد نواجه طبقية جينية حيث أطفال الأغنياء يُصمَّمون في مختبرات، والفقراء في أرحام آلية رخيصة. سيخرج لنا أطفال بـ "نفوسٍ ميتة"، عاجزين عن التفاعل العاطفي، عاجزين عن فهم الغضب، الحزن، الفرحِ، الحنين، الحب أو حتى الكره. والنتيجة أن تنهار المنظومة الاجتماعية، والرابطة بين الوالدينِ والطفل هي أساس تماسك المجتمع (تقرير اليونسكو عن المخاطر الأخلاقية 2024)؛ ففي هذه المساحة غير المرئية، يُخلق للإنسان معنى وجوده. وأي تقدم علمي يتجاوز هذه القدسية، سيكون انتحارا لجوهر ما نعنيه بـ "أن نكون بشرا". وفي خطوة لتسليع هذه الخدمة تخطط شركة "بيونيك وومن" لبيع روبوتات حمل للأثرياء كـبديل عن التبني بحلول 2028.

لن تستطيع التكنولوجيا أبدا خلق تلك السيمفونية المقدسة التي تحول دقة قلب تحت الضلوعِ إلى خريطة لروحٍ لم تولد بعد. هذه الموسيقى لا تُنسخ؛ فالتكنولوجيا قد تنقل الحياة، لكن الإنسان وحده ينقل الإنسانية. وسيظل الرحم الطبيعي هو المعبد الوحيد الذي يمكن أن يرسل إلى العالم إنسانا يعرف أن الحياة ليست مجرد دفقة دم، بل دفقة معنى وتاريخٍ. الآلة تخلق وجودا، لكن الحب يخلق قصة، والقصص لا تولد إلا في أرحام تحمل تاريخا؛ فرحم الأم ليس مكانا، بل عالم كامل بكل تناقضاته، فيه تتشابك هذه النعمة أو اللعنة التي نسميها "الحياة" لن تفهمها خطوط برمجة، ولن تحملها شريكة ميكانيكية. ستظل الأرحام الصناعية كالكتاب الذي كُتب بلغة ميتة، يمكنك فهم حروفه، لكن لن تلمسك روحه، لن تسمع صوت ضحكات أو دموعٍ بين سطوره، ولن تجد بصمات أصابع مرتجفة على هامشه؛ فالحياة الحقيقية تبدأ حيث تنتهي التكنولوجيا، عند حافة اللحظة التي تختلف فيها قصة كل إنسان عن الآخرِ. سيظل الإنسان ابن اللحظة، ولن يكون ابن التقنية، فإن أعظم خطيئة أن نحول المعجزة الإلهية إلى معادلة.

لكن دعنا عزيزي نبحث عن المستفيد من صناعة إنسان مفرغ من إنسانيته، عن الغرض المختبئِ خلف الأهداف النبيلة المعلنة، والوجه القبيح الذي يتجمل بشعار العلم في خدمة المجتمع، وفي النهاية يهدينا مجتمع مُصنع أقرب للآلة منه للبشر.

وللحديث بقية......

مقالات الرأي

آخر الأخبار