هشام بيومي يكتب: أميرة الفلسفة... من حدائق القبة إلى قمة الفكر العربي


سيرة امرأة واجهت التحديات بالعقل والوضوح وأصبحت قدوة لكل باحث ومثقف
في عالم يتسابق فيه الجميع نحو المظاهر الفارغة والنجاحات الزائفة، تظل هناك نماذج حقيقية تُشعل فينا جذوة الأمل، وتقول بصوت صادق: النجاح لا يُولد، بل يُصنع بصبر، ويُبنى على المعرفة، ويُتوَّج بالإصرار.
إنها قصص أولئك الذين آمنوا أن العقل هو السلاح الأسمى، وأن الفكر الناضج أقوى من كل العقبات. واحدة من هؤلاء، بل أيقونة في زمن عزّت فيه الأيقونات، هي الدكتورة أميرة حلمي مطر — الفيلسوفة، العالمة، المترجمة، والمعلمة التي ارتقت من حيٍّ بسيط في القاهرة إلى منصة الفكر العربي والعالمي، لا بمال ولا نفوذ، بل بالاجتهاد، وبعقل يشبه النهر في صفائه وعمقه.
في شبابها لم يكن هناك سوشيال ميديا ولا شهرة تُمنح بمجرد صورة، بل كان هناك كتاب يُقرأ، وعقل يُغذّى، ووقت يُستثمر في البحث والتفكير. في زمنٍ كهذا، تفتح لنا "أميرة" طريقًا آخر... طريقًا صعبًا لكنه أصيل، طريق العلم والمعرفة، الطريق الذي لا يُغلق أبدًا.
وُلدت أميرة حلمي مطر عام 1930 في حي حدائق القبة بالقاهرة، في منزل يقدّر التعليم ويحترم الفكر. والدها كان مهندسًا حاصلًا على دكتوراه من إنجلترا، فغرست فيه بذور الطموح والتميز مبكرًا. لكنها لم تكتفِ بظل الأب، بل قررت أن تكتب اسمها بنفسها في سجل العظماء.
في عام 1948 التحقت بكلية الآداب، قسم الفلسفة، في جامعة القاهرة، واختارت أن تخوض واحدًا من أصعب التخصصات – الفلسفة – لا لأنها تبحث عن الغموض، بل لأنها كانت تبحث عن الحقيقة.
تخرجت الأولى على دفعتها عام 1952، وعيّنت معيدة، وبدأت مشوارًا أكاديميًا استثنائيًا مليئًا بالتحديات والنجاحات.
لم تكن الطريق مفروشة بالورود. كانت فتاة شابة في زمن كان صوت المرأة فيه لا يُسمع إلا همسًا، وكان التفوق النسائي يُقابل بالشك أحيانًا. لكن أميرة لم تصرخ، ولم تشتكِ، بل قرأت ودرست وفكّرت وكتبت.
حصلت على الماجستير والدكتوراه، وتخصصت في الفلسفة اليونانية والجماليات، لتصبح أول مصرية تُدرّس محاورات أفلاطون وترجمها للعربية بلغة راقية وروح عصرية.
في وقت كانت فيه الفلسفة حكرًا على الرجال، فرضت حضورها كعقل نقي، لا يقهره الزمن ولا يغلبه التمييز.
ألفت عشرات الكتب في مجالات الفلسفة السياسية، وعلم الجمال، وتاريخ الفلسفة، وترجمت نصوصًا معقدة بأسلوب جعلها مفهومة لطلابها وقرائها. من أبرز أعمالها:
فلسفة الجمال: أعلامها ومذاهبها
الفلسفة السياسية: من أفلاطون إلى ماركس
محاورات أفلاطون
مدخل إلى علم الجمال
كانت ترى أن الجمال ليس في الشكل بل في الفكر، وأن الفلسفة ليست ترفًا بل ضرورة. كانت تسأل طلابها دائمًا: "هل فكّرت اليوم؟ وإن فكّرت، فهل تساءلت عن معنى ما تفكّر فيه؟".
ارتقت من أستاذة جامعية إلى رئيسة قسم الفلسفة بجامعة القاهرة، ودرّست في جامعات عربية عديدة، وشاركت في مؤتمرات عالمية.
كرّمتها الدولة بجائزة الدولة التشجيعية ثم جائزة الدولة للتفوق، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.
لكن أعظم تكريم لها، كان احترام الأجيال لها، وتقدير طلابها، واعتبارها قدوة حقيقية.
قصة الدكتورة أميرة حلمي مطر ليست فقط قصة امرأة ناجحة، بل قصة إنسان آمن بأن العقل هو مفتاح الحياة.
لم تسعَ إلى السلطة ولا الشهرة، بل إلى المعرفة، فوجدت الاحترام.
لم تدخل المعارك بالكلمات الجوفاء، بل بالفكر، فخرجت منتصرة.
تقول لنا من خلال سيرتها:
"القراءة ليست هروبًا من الواقع، بل صعودًا فوقه... والتفكير ليس رفاهية، بل شرط للحرية."
في عالم يبحث فيه الجميع عن طريق مختصر، تُثبت لنا "أميرة" أن الطريق الطويل هو الأصدق.
في زمن يميل إلى السطحية، تُثبت أن العمق لا يموت.
وفي واقع يميل إلى النسيان، تبقى هي في الذاكرة... أميرة بحق، لا في اسمها فقط، بل في فكرها وموقفها.