فيفيان سمير تكتب .. روحها مجردة، وجسدها أداة


تتسارع أنفاس الزمن، وتُنسج خيوط مستقبلٍ يلوح في الأفق، ليس كحلم جماعي، بل كتصميمٍ دقيقٍ يرسم حدودا فاصلة لا تُرى بالعين المجردة، لكنها تنحت واقعا جديدا بقسوة ودهاء. تبرز فكرة "المليار الذهبي" ليس كخيال علمي، بل كسيناريو محتمل يتردد صداه في أروقة القوة والثروة. المليار الذهبي (The Golden Billion) هو مصطلح يشير إلى فكرة أن حوالي مليار شخص فقط (غالبًا سكان الدول الغنية مثل أمريكا الشمالية وأوروبا واليابان) يسيطرون على معظم موارد الكوكب ويتمتعون بمستوى معيشي مرتفع، بينما يُستبعد باقي سكان العالم (نحو 7 مليارات) من هذه الرفاهية. تلك النخبة التي لا تتجاوز 11% وفقا لإحصائية مؤسسة بيل غيتس ووفق تقرير أوكسفام 2025 وتتحكم في 82% من ثروات العالم. تصور أن نخبة عالمية خفية (مثل "بيلدربرغ" أو "المتنورين") تخطط لتقليل سكان الأرض إلى مليار شخص للحفاظ على مواردها. هم ليسوا مجرد رقم إحصائي، بل هم النخبة المصطفاة، أولئك الذين يمتلكون المفاتيح الذهبية لعوالم الرفاهية المطلقة، والصحة المديدة، والسلطة غير المسبوقة، فيما يتدحرج بقية الجنس البشري في دوامة من التحديات الوجودية، من شح الموارد إلى تغير المناخ الذي يلوح كسيف مسلط. وتُصبح التكنولوجيا، ذلك العملاق المتفوق، خادما أمينا لهذه الفكرة، بل وحرفيا ماهرا ينحت تفاصيلها.
التكنولوجيا هنا ليست أدوات محايدة. إنها النسيج العصبي لهذا النظام الجديد. من خلال قوة البيانات التي تُستخرج من كل نقرة وهمسة وتحرك، تُصمم الخوارزميات المعقدة لخدمة مصالح هذا المليار ببراعة لا تُضاهى. أنظمة التوصيل الفوري التي تختصر الزمن لهم، شبكات الطاقة النظيفة التي تحمي جزرهم الاصطناعية من غضب الطبيعة، علاجات الجيل الجديد المُعدة خصيصا لتمديد أعمارهم ورفاهيتهم، كلها تُبنى على أساسٍ من الذكاء الاصطناعي، الذي يتعلم باستمرار كيف يخدمهم بشكلٍ أفضل. حتى مفهوم "الرفاهية" نفسه، يُعاد تشكيله تكنولوجيا ليصبح حكرا على من يستطيعون الوصول إلى أحدث تطبيقات الواقع المعزز، الذي يصنع جنات افتراضية، أو أجهزة التحسين البيولوجي التي تضخم قدراتهم الجسدية والذهنية، محققة حلم السوبرمان في دوائر ضيقة.
وفي قلب هذا المشروع الحلم، تنبت فكرة مظلمة، هي الثمرة المسمومة للتقنية المتحكمة "أطفال الروبوتات". لا أعني هنا آليين متطورين، بل كائنات بشرية من لحم ودم، تولد وتُصاغ في مختبرات باردة، كـ "قطع غيار بشرية" مصممة خصيصًا لخدمة الصفوة المصطفاة. إنهم الجيل المبرمج بيولوجيًا واجتماعيًا، ثمرة زواج قسري بين الطموح التكنولوجي غير الأخلاقي، وحاجة النخبة إلى خدم مخلصين لا يشكون ولا يتمردون.
على طاولة من الجرانيت الأسود، في قبو تحت جبال الألب السويسرية، تُعقد صفقة تاريخية بين ستة من أغنى أغنياء العالم. تلمع شاشة تعرض خريطة جينية تحمل اسم "المشروع أوميغا". هدفهم اختراق حاجز الموت عبر إنشاء جيل من "الأطفال الخُدَّم". قطع غيار بشرية مصممة خصيصا لخدمة ما يُسمى "المليار الذهبي". تسريبات من المنتدى الاقتصادي العالمي، تكشف النقاب عن وثيقة سرية بعنوان "التكنولوجيا الحيوية كأداة لاستدامة النخبة المعرفية". النص يوضح ما يحدث في مختبرات مثل "فيتال آرك" بدبي، حيث 30% من الأجنة في حاضنات الروبوتات مخصصة لزراعة الأعضاء، منها 17% تحمل تعديلات جينية لتأخير الشيخوخة بناء على أبحاث معهد سولك 2024 عن جين FOXO3.
التكنولوجيا هنا ليست مُعينًا بريئًا؛ إنها رحم اصطناعي تلد العبودية بثوب جديد. ففي مراكز "الإنتاج" السرية، تُستخدم الأرحام الروبوتية المتطورة، المدعومة بتقنيات التعديل الجيني الدقيق، لخلق أطفال وفق مواصفات محددة. تُستبعد الجينات المرتبطة بالأمراض الوراثية، بل وتُضاف سمات مرغوبة مثل القوة البدنية للخدمة الشاقة، الطاعة المبرمجة في الدوائر العصبية، الذكاء الكافي لفهم الأوامر دون فضول معرفي خطر. تُسرب تقارير عن استخدام محفزات بيوكيميائية خلال التطور الجنيني داخل هذه الأرحام الآلية، لضمان استقرار نفسي منخفض، وقدرة على تحمل الرتابة دون كلل أو سأم. إنهم يُصنعون، لا يُولدون، كمنتجات على خط تجميع بيولوجي.
وتأتي مرحلة "التجهيز" بعد الولادة الميكانيكية، حيث تتولى الروبوتات المربية، المدعمة بذكاء اصطناعي تحليلي، مهمة صقل هذه "القطع البشرية". في مرافق أشبه بمزارع تربية، تُغذى عقول الأطفال ببرامج تعليمية مقننة، لغات الخدمة، مهارات الحرف اليدوية الدقيقة، آداب الطاعة المطلقة. كاميرات المراقبة الدقيقة تحلل تعابير وجوههم، وتصحح أي بوادر غضب أو حزن أو طموح. تُستخدم نظارات الواقع الافتراضي لغرس الولاء للنخبة عبر حكايات أسطورية تقدمهم كمخلوقات مميزة، بينما تُعزل أي صلة عاطفية بأسرهم البيولوجية (إن وُجدت أصلا). التكنولوجيا تحولهم إلى كائنات وظيفية، روحها مجردة، وجسدها أداة.
توظف النخبة هذه "الموارد البشرية المصنعة" في كل مجال يخدم عزلتها ورفاهيتها. هم الخدم الصامتون في قصورهم، الحرفيون الماهرون في مصانع الرفاهية الفاخرة، الفنيون الذين يضمنون استمرار البنى التحتية النظيفة للمدن المسورة. تُستغل قدراتهم البدنية المُحسنة في أعمال خطيرة أو شاقة، حيث لا تخاطر النخبة بفلذات أكبادها. والأكثر قتامة، تُسرب تقارير عن استخدامهم كـ "بنوك بيولوجية" احتياطية، فتقنيات الاستنساخ والهندسة الحيوية تتيح إمكانية "حصاد" أعضاء متوافقة حيويًا في حالات الطوارئ الطبية لأفراد الصفوة، مجسدة بفظاعة فكرة "قطع الغيار البشرية". الذكاء الاصطناعي يدير هذه الشبكة المعقدة، بحساب دقيق لـ "عمر الخدمة" و"معدل الإنتاجية" لكل فرد، مجردًا إياه من إنسانيته.
هذه الآلية التكنولوجية الباردة تخدم المليار الذهبي، لكنها تحفر قبرًا للعدالة الاجتماعية. الحقائق العلمية المسربة تكشف مخاطر جسيمة، خلل في التنوع الجيني البشري بسبب التكاثر المصطنع الموجه، انتشار أمراض نفسية غامضة بين "أطفال الروبوتات" نتيجة القمع العاطفي الممنهج، وانهيار كامل لأسواق العمل التقليدية أمام هذه السخرة المصنعة. التوقعات ترسم عالمًا تتحول فيه الإنسانية إلى طبقتين، المصطفون المُحسنون وراثيا، و"المصنعون" الخادمون، يفصل بينهما حاجز تكنولوجي وطبقي، حتى المشاعر تصبح سلعة مسيطر عليها؛ فتقنيات التحفيز العصبي قد تُستخدم لقمع الحنين أو الكرامة في الخادم، وخلق السعادة الاصطناعية في المخدوم.
فكرة المليار الذهبي إذن، ليست خيالًا محضًا، بل هي مسار محتمل، وبهذا المنظور القاتم، ليست يوتوبيا، بل ديستوبيا تُبنى على ظهور بشر مُستلبين. التكنولوجيا هنا ليست منقذة، بل هي محرك رئيسي لتحقيق هذا الحلم القديم المتجدد في ثوب رقمي مخيف في يد القلة، لم تعد أداة تقدم، بل سوط يُعيد إنتاج العبودية بأبشع صورها. أطفال الروبوتات هم الضحايا الصامتون لهذا الحلم الذهبي الملوث بجنة هشة، قائمة على بركان من الظلم قد ينفجر في أي لحظة. إن وهج التقدم إذا انحرف عن مساره الإنساني، يمكن أن يُنتج ظلاما أشد قسوة من أي عصر مظلم مضى.
والسؤال المطروح بإلحاحٍ ليس فقط عما إذا كان سيناريو المليار الذهبي سيصبح حقيقة واقعة، بل عما إذا كانت الإنسانية جمعاء ستسمح لهذا الإزميل بنحت مستقبل يتسع للجميع، أم أنه سيظل حكرا على من يمسكون به بعالم يعوم فوق محيط هائجٍ من التحديات والإقصاء. في هذا التدافع الصامت بين إمكانيات التكنولوجيا اللامحدودة وأخلاقيات تطبيقها، تُكتب فصول الملحمة الإنسانية القادمة، حيث قد يتحول حلم التقدم إلى كابوس ذهبي.