الخميس، 7 نوفمبر 2024 03:53 مـ
بوابة المصريين

رئيس الحزب د. حسين ابو العطا

مقالات الرأي

فيفيان سمير تكتب : هويتنا الثقافية في عالم موحد

فيفيان سمير
فيفيان سمير

تُعد التكنولوجيا الحديثة والفضاء الالكتروني جزءًا لا يتجزأ من حياتنا في الوقت الحالي، وأداة قوية تتيح لنا الوصول إلى معارف جديدة، وبوابة لفرص لا حصر لها للاكتشاف والتعلم وتوسيع آفاقنا، والتواصل السهل مع العالم المحيط بنا من مختلف البلدان، وتبادل الأفكار والمعرفة، كما يعزز الفضاء الالكتروني الإبداع والتفكير النقدي، ويمكن أن يكون وسيلة لتعزيز قدراتنا الفردية، لكن عندما يتسلل العالم الافتراضي إلى حياتنا تتجاوز التكنولوجيا حدود الخيال وتسيطر علينا بكل قوة وإغراء، تظهر أمامنا حياة مفتوحة بلا حدود لتجذبنا وتغوينا بألوانها الساحرة وعوالمها الوهمية. لكن وراء هذه البوابات القريبة تتربص تحديات جسيمة ومخاطر خفية تهدد بزعزعة توازننا وثوبتنا وتشكيل هويتنا.
نتفاعل مع هذا العالم على نحوٍ متزايد، وتتغير طبيعة التواصل والتفاعل الاجتماعي، ويُكبلنا الفضاء الافتراضي بالثقافات المتنوعة والتراثات المختلفة، حيث أن الانغماس الشديد في الفضاء الالكتروني تكمن خطورته في ضياعنا بين الأجهزة الذكية والشبكات الاجتماعية، خاصة الأطفال والشباب الذين يغويهم العالم الافتراضي بحياة مثيرة وتحفيزات قوية، فهم يجدون هناك ملاذًا سهلاً للهروب من واقعهم الذي يفتقد المتعة والإثارة والمليء بالمشاكل الكثيرة، فيتمتعون بالتجارب والمغامرات الافتراضية بدون أي مخاطر حقيقية، ويمكنهم الانغماس في عوالم خيالية لا حدود لها. يعيش الطفل أو الشاب متأرجحًا بين الشاشات الساحرة واللمسات الحقيقية، تلك الأجهزة الإلكترونية التي تغوص برياضة الألوان والأصوات في أعماق خياله البريء، تجذبه بقوة لعالم الألعاب الافتراضية والتواصل المتكرر عبر الشبكات الاجتماعية؛ فبينما يغرق الطفل أو شاب في أعماق الشاشات، يفقد الاتصال الحقيقي بالعالم المحيط به. يتلاشى التفاعل العاطفي الحقيقي مع الآخرين وتتراجع قدراته الاجتماعية فيفقد التوازن بين العالم الحقيقي والعالم الوهمي، بل يدمن العالم الافتراضي، متجاهلا الواقع والمشاعر الحية والاتصالات الحقيقية، ويتأثر بصورة سلبية على مستوى التواصل والتفاعل الاجتماعي، ويفتقد المهارات الحياتية الأساسية التي يحتاجها للتعامل مع الواقع. وهنا ينشأ تهديد خطير بطمس الملامح الخاصة بالهوية الثقافية والتراثية للشعوب، ونتعرض لخطر فقدان الانتماء للذاتية الشعوبية، ونشوء جيل ممسوخ خال من الخصوصية الثقافية والانتماء التراثي. يُحوِله الفضاء الالكتروني إلى جيل معزول عن التفاعلات الاجتماعية الحقيقية والتجارب الحية التي تشكل هويته، فيصبح الشخص جزءًا من عالم افتراضيٍ موحد مستوحى من مختلف الثقافات والتراثات المتداخلة، يتلاشى فيه الخصوصية الفردية والانتماء الثقافي الأصيل، ويتحول إلى جزء من جماعة عالمية موحدة، يذوب فيها فتسلبه ملامحه الخاصة وتفاصيل ثقافته الأصلية، تتلاشى التقاليد العريقة والقيم الثقافية الأصيلة وربما حتى تتلاشى اللغة الأم، ليخلق جيلا بلا هوية تميزه عن الآخرين.
إن هذا الجيل الممسوخ يفقد التواصل مع جذوره الثقافية ويتجه نحو الاندماج التام في العالم الافتراضي، حيث لا توجد حدود ثقافية ولا تراثية، بل يتنقل بين الهويات المزيفة والتحول من ثقافةٍ إلى أخرى دون أي ارتباط أو انتماء، فيتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، ويصبح مجرد سطح بلا تميز ولا تفرد.
إننا لا ننكر أن التكنولوجيا لديها فوائد عديدة تعمل على توسعة الآفاق العقلية وتعزيز المهارات الإبداعية، ويمكن للأطفال والشباب الاستفادة من العديد من التطبيقات والألعاب التعليمية الذكية التي تعزز تعلمهم وتطوير قدراتهم العقلية والفكرية، ولكن يجب أن نكون حذرين لعدم الانجذاب بشكل كامل إلى هذا العالم الوهمي، وينبغي علينا أن نحمي هويتنا الثقافية وتراثنا الأصيل من هذا الخطر المحتمل، وأن نبحث عن الأدوات التي يمكن أن تصنع جسرًا بين الواقع والتقنية لنعيد التوازن بين العالم الافتراضي والعالم الحقيقي. وأن نحافظ على العلاقة مع جذورنا وجمالياتنا التقليدية. يجب أن نعلم أجيالنا القادمة قيمة الانتماء والاحتفاء بتراثها الثقافي. يجب علينا تعزيز المميزات الثقافية الفريدة الخاصة بنا، وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على التراث والهوية الثقافية الأصلية من خلال المشاركة في الفعاليات والعروض الثقافية، وقراءة الأدب والشعر الذي يعبر عن تراثنا. يجب علينا أن نعلمهم أن الفضاء الالكتروني هو أداة للاستفادة وليس بديلاً عن العالم الحقيقي والتفاعلات الاجتماعية.
إنها رحلة تبدأ من الداخل بإعادة اكتشاف السحر البسيط للحياة، بتذوق نكهة اللحظات الحقيقية التي تملأ القلوب بالبهجة والسعادة، كاللعب في الهواء الطلق، واستكشاف الطبيعة والاستمتاع بملامسة الأرض ورائحة الزهور، لكن السحر لا يكتمل إلا بلمسة الإبداع والتفاعل الفعلي، يمكننا استخدام الفنون والأداب والموسيقى والحكايات لجذب انتباه شبابنا وإلهام خيالهم. نقدم لهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم بطرق مبتكرة، مثل الرسم والكتابة والمسرح، والاهتمام بالرياضة والأنشطة الإبداعية الأخرى التي تساعدهم على التعبير عن هويتهم الثقافية الفريدة، حتى يتمكنوا من الانغماس في الإبداع الحقيقي، ولكن يجب ألا نغفل أن الأطفال والشباب يتأثرون بقوة بمحيطهم وبنماذجهم القريبة، لذا، يجب علينا كبالغين أن نكون قدوة حسنة لهم. يمكننا أن نخلق بيئة عائلية تشجع على التواصل الحقيقي والوقت المشترك، بعيدًا عن الشاشات والتكنولوجيا، ومن الضروري أن يكون للتعليم دور في تحقيق التوازن. يجب أن يعمل المعلمون على تصميم أنشطة تعليمية تشجع الطلاب على التواصل والتفاعل المباشر، كما يمكن استخدام التقنية بشكل متوازن في العملية التعليمية، حيث يمكن استخدام الوسائط المتعددة والتطبيقات التعليمية لتسهيل التعلم وتحفيز المشاركة الفعلية، دون أن نفقدهم، بل نجعل منهم مواطنين رقميين ملهمين ومتوازنين في هذا العالم المتصل.
إن العالم الافتراضي لا يجب أن يكون مصدرًا لفقدان الهوية والتراث، بل يجب أن يكون وسيلة لتعزيزها وتحقيق التواصل الثقافي بين الشعوب. يجب أن نستخدم هذا العالم بحكمة ووعي، وأن نتذكر أن الثقافة والتراث هما الأساس الذي يعطينا تفردًا وهوية، ونتفهم أن العالم الافتراضي لا يجب أن يكون عدوًا للثقافة والتراث، بل يجب أن يكون وسيلة لتعزيزها ونشرها. دعونا نحتفظ بروحنا الثقافية وتراثنا الأصيل، ونتذكر أننا أناس فريدون بثقافتنا وهويتنا، فقط عندما نحترم هويتنا ونعتز بها. هكذا يمكننا الحفاظ على التنوع الثقافي والتراثي في وجه تهديدات العالم الافتراضي.

فيفيان سمير

مقالات الرأي

آخر الأخبار